انعقاد المؤتمر التاسع والعشرون للاتحاد البرلماني العربي في العاصمة الأردنية عمان تحت شعار “القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين” له دلالات كبيرة من حيث التوقيت والمكان وطبيعة المشاركين،- بمن فيهم ممثلين عن برلمان الجمهورية العربية السورية-، وكل ذلك انعكس في بيانه الختامي الذي جاء في أحد بنوده “إن واحدة من أهم خطوات دعم الأشقاء الفلسطينيين، تتطلب وقف كافة أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وعليه ندعو إلى موقف الحزم والثبات بصد كل أبواب التطبيع مع إسرائيل”، وهذا البند له أهمية خاصة من حيث تأكيد ممثلي الشعوب العربية في هذا المؤتمر الشعبي العربي، إن صح التعبير، على “مركزية القضية الفلسطينية، بصفتها أولوية تتقدم قضايانا، وأن أي حل يتجاوز الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية، والمتوافق عليها في المبادرة العربية للسلام، هو حل غير قابل للحياة” كما جاء في البيان، مما يعني أن التطبيع مع دولة الاحتلال هدفه تجاوز الحقوق الفلسطينية نحو حل منقوص لن يقود إلا إلى مزيد من التغول الإسرائيلي في المنطقة العربية والعالم بشكل عام على حساب ليس فقط الحقوق الفلسطينية وإنما أيضا حقوق شعوب المنطقة بشكل عام، لأن العقلية الإسرائيلية هي اقصائية إحلالية لن تعترف سوى بمصالحها و”حقها” في بناء دولتها “اليهودية” من النيل إلى الفرات.
تأكيد البيان الختامي للمؤتمر على “أن إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وإعادة الأمن والاستقرار في المنطقة، لن يتأتى إلا عبر إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والمضي قدما في عملية سياسية أساسها التسوية العادلة لقضايا الوضع النهائي، وتوصلنا في نهاية المطاف لإعلان قيام دولة فلسطين العربية وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، وضمان حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين”، يعيد للقضية الفلسطينية أساسها الدولي حيث أن حل الصراع لن يكون وفق ما تريد إسرائيل وتسعى اليه من خلال فرض حقائق على الأرض وتثبيتها “رسميا” مستعينةبما يسمى بصفقة القرن، بل إن حل الصراع يكون فقط بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، والتمسك “بالمبادرة العربية للسلام(التي قبلها الرئيس الراحل الرمز ابو عمار واكد عليها الرئيس ابو مازن) كإطار مرجعي لأي تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، هو الطريق الوحيد لمواجهة غياب الإرادة الدولية في ضمان الحل العادل لحقوق الشعب الفلسطيني”.
لا شك بأن موقف الاتحاد البرلماني العربي يرقى إلى مستوى الحدث، وهو يعكس موقف الشعوب العربية من دولة الاحتلال ومن صفقة القرن، حيث أشار بيان المؤتمر بشكل مباشر إلى انحياز الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب دولة الاحتلال من خلال تأكيد المجتمعون على “موقفهم الثابت الذي سبق وأن اتخذه الاتحاد في المؤتمر الطارئ في الرباط باعتبار الولايات المتحدة الأميركية دولة منحازة، ولم تعد وسيطاً نزيهاً في عملية السلام ما دامت تنتهج سياسة أحادية في قراراتها، وغير محايدة تصب في الانحياز لصالح المحتل الإسرائيلي، وآخرها القرار غير الشرعي والأرعن المتعلق بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والذي سيجعل عملية السلام في الشرق الأوسط في مهب الريح، ويفتح المنطقة على مستقبل مظلم يتهدده العنف والتطرف الفكري والعقائدي والنزعات الدموية العمياء”.
وهنا يمكن القول بأن ممثلي الشعوب العربية لديهم الرؤية والفهم العميق بأن التعويل على الولايات المتحدة الأمريكية لحل الصراع العربي الإسرائيلي هو قفزة في الهواء ليس إلا، وعلى الجانب العربي الرسمي العمل مع الفلسطينيين من أجل الوصول إلى حل الصراع عِبر مؤتمر دولي يجبر دولة الاحتلال على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وليس التفاوض عليها، حيث أثبتت الممارسة العملية بأن أمريكا تعمل في سياق ما تريده الحركة الصهيونية ولا أدل على ذلك أنها قامت بدمج القنصلية الأمريكية العامة في القدس بالسفارة الأمريكية لدى “إسرائيل” بعد قرابة 162 عاما على افتتاحها في مدينة القدس، مما يعني النية المبيتة لدى أمريكا منذ ما قبل وعد بلفور المشؤوم على دعم قيام دولة “يهودية” بعاصمتها القدس وهذا ما سعت إليه الحركة الصهيونية منذ العام 1800.
إن تأكيد البيان الختامي للمؤتمر على “أن استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، ومحاولات الاحتلال المستمرة لطمس معالم المدينة المقدسة، من خلال المساس بالوضع التاريخي القائم، هو استفزاز لمشاعر العرب والمسلمين، وينذر بمرحلة أكثر تعقيدا. وإن المطلوب العمل قدما لحماية القدس من أي محاولات تستهدف العبث بهويتها التاريخية بصفتها مهبطا الرسالات السماوية، ولحملها هوية إسلامية تمثل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”. وأن “الإجراءات الإسرائيلية الأحادية المتمثلة بالتوسع بمشروعها الاستيطاني عبر مصادرة الأراضي الفلسطينية ومحاولات فرض مبدأ يهودية الدولة، هو مخطط يرمي لفرض سياسة الأمر الواقع، ما يتطلب جهدا عربيا في وضع حد لهذا الانتهاك الخطير، والتأكيد على أن الحق الإسلامي والمسيحي في القدس وسواها هو حق أبديّ وتاريخيٌ وخالد، ولن نقبل المساس به”.
وهذا يجدد تمسك العرب بالحق التاريخي والديني والوطني بمدينة القدس التي لم ولن تكون سوى فلسطينية ببعدها المسيحي والإسلامي، وقبلة كل المؤمنين وهي ليست حكرا دينيا لأحد، فهويتها فلسطينية وفضاؤها إنساني ديني عالمي، وهذا التأكيد فيه ردا من قبل ممثلي الشعوب العربية على صفقة القرن ومن يقف معها ويدعمها سرا وعلانية بأنها لن تمر ومصيرها الفشل لأن إرادة الشعوب أقوى من دجل الاحتلال وكل من يقف معه ويدعمه، واعتقد بأن على الرئيس ترامب إعادة حساباته جيدا فيما يخص تطبيق صفقة القرن والاستماع إلى مستشارين موثوقين يجسدون مصالح الولايات المتحدة في المنطقة وليس مصالح دولة الاحتلال التي عمقت كراهية الشعوب العربية لأمريكا بسبب سياساتها الداعمة لدولة الاحتلال.
دعم المجتمعون في المؤتمر “مقترح مجلس النواب الكويتي في دعم جهود المصالحة الفلسطينية، ويتبنون تشكيل لجنة برلمانية عربية تبحث مع الأطراف الفلسطينية سبل المصالحة، وإنهاء الخلافات فيما بينهم، وهو ما يصب في مصلحة توحيد المواقف الفلسطينية والعربية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ووقف انتهاكاته بحق الشعب الفلسطيني الأعزل الذي مازال يقاوم كل أوجه الانتهاكات منذ اكثر من سبعين عاما”. هذا الدعم ضروري ومطلوب وعلينا نحن كفلسطينيين أن نعمل جاهدين من أجل طي صفحة الانقسام فذلك يساعدنا ويساعد الأشقاء العرب على مخاطبة العالم، كما جاء في البيان “بلغة مشتركة، حيال قضيتنا المركزية، فلسطين، لتكتسب الأهمية التي يجب أن تحظى بها أمام دول العالم وفي المحافل الدولية؛ بما يضمن الحشد والتأييد لعدالة القضية الفلسطينية ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني الشقيق”.
لامس مؤتمر الاتحاد البرلماني نبض الشارع العربي، وكان لانعقاده في العاصمة عمان رسائل سياسية هامة لدولة الاحتلال وللولايات المتحدة الامريكية، ولا شك بأن المواقف المتقدمة لبعض الدول العربية في هذا المؤتمر مُقدرة وتعكس تمسك هذه الدول أولا بكرامتها ومسؤوليتها التاريخية والوطنية تجاه شعوبها واتجاه قضية العرب المركزية، القضية الفلسطينية، وإن إصرار رئيس الاتحاد البرلماني العربي المهندس عاطف الطراونة رفض مطلب ثلاث دول عربية بعدم تضمين بند رفض التطبيع يعكس حرص المملكة الأردنية الهاشمية على القضية الفلسطينية ككل متكامل وليس فقط على المقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس بحكم الوصاية الهاشمية عليها وهذا يحظى بدعم ممثلي الشعوب العربية بشكل عام، وهنا أيضا لا بد من الإشادة بموقف دولة الكويت الشقيقة الذي جاء على لسان رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم في قضية القدس والتضامن معها، والمصالحة الفلسطينية، ورفض “التطبيع” إضافة إلى دعوته الصريحة لدعم الأردن في جهوده المتعلقة، بـ”الوصاية” على المقدسات وحمايتها.
هذه المواقف العروبية الوطنية الشعبية لا شك بأنها تُشكل سندا مهما للنضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، وتجدد ثقتنا وايماننا بأن الشعوب العربية هي المخزون النضالي الداعم لنا ولحقوقنا، وهي لا زالت على عهد القائد الراحل جمال عبد الناصر، وشهيد القدس الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، والمرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذين قدموا الكثير للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية بشكل عام، ولا أعتقد بأن مواقف بعض الدول الداعمة للتطبيع مع دولة الاحتلال ستنال من تاريخ هؤلاء القادة رحمهم الله لأن شعوبهم ومحبيهم سيبقون على عهدهم أوفياء لقضية العرب الأولى.
المطلوب منا كفلسطينيين استثمار ما جاء في البيان الختامي للمؤتمر التاسع والعشرون للاتحاد البرلماني العربي وأن نبدأ فعليا بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في القاهرة 2011 و 2017، فلا يمكن لنا أن نصل إلى حقوقنا ونحن منقسمون، ولا يمكن لأي جهة كانت أن تقف معنا وتدعمنا ونحن منقسمون، فالجميع يعرف بأن الانقسام هو مقتل المشروع الوطني وخسرنا جراءه الكثير ولا زلنا، فإلى متى سنبقى في دوامة الانقسام، نختبئ خلف مواقف لم تعد تقنع فلسطينيا…. فلنتوحد قبل أن يلفظنا شعبنا ويحاكمنا التاريخ.