يعود القرار بتأسيس القنصلية الأمريكية في القدس إلى الرئيس الأمريكي العاشر جون تايلر، عام 1944، قبل أزيد من نصف قرن على مؤتمر بازل في سويسرا، وحين كانت الحركة الصهيونية فكرة جنينية، وكانت وجهتها غير محددة، من القرم إلى أوغندا، مروراً بفلسطين، وقد بدأت القنصلية أعمالها في المدينة (باب الخليل) بعد سنوات من قرار الرئيس الأمريكي، وظلت مستمرة في أعمالها حتى الأمس، عندما جرى إغلاقها، وتحويلها إلى غرفة (ملحق) في السفارة الأمريكية التي تم نقلها بالضد من القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومرجعيات عملية السلام، ومن جانب واحد، من تل أبيب إلى القدس.
منذ أن أعلنت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ديمقراطية وجمهورية، قبولها بـ»حل الدولتين» وتأييدها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وموافقها على قرار مجلس الأمن 1515 لسنة 2003، والذي نص على قيام دولة فلسطينية بحلول العام 2005، وقبله القرار 1397 ومن بعده القرار 2334 بشأن الاستيطان والتمييز والتغيير السكاني، وجميعها قرارات صدرت بموافقة واشنطن أو امتناعها عن التصويت، كان المنطقي انتظار تحول القنصلية إلى سفارة، وتبادل الاعتراف بين الولايات المتحدة ودولة فلسطين … لكن دونالد ترامب وإدارته، قطعت طريق تطور الموقف الأمريكي، وأحدثت استدارة كاملة في اتجاه ووجهة السياسة الأمريكية حيال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
في ظني أن الهبوط بالتمثيل الدبلوماسي الأمريكي، بدل الارتقاء به، وتحويل القنصلية، إلى مجرد غرفة، هي إشارة واحدة إلى شكل «الكيان الفلسطيني» الذي تقترحه الولايات المتحدة على الفلسطينيين، وهو كيان لا يرقى إلى مستوى الدولة، ويندرج في إطار حكم ذاتي محدود، ولا تتعدى وظائفه نطاق «الحراسة» و»الكناسة»، حراسة المستوطنات والمستوطنين، وخدمات بلدية موسعة على أبعد تقدير … مثل هذا الكيان، لا يحتاج لسفارة، وربما لا يحتاج لقنصلية، غرفة أو ملحق في سفارة واشنطن في القدس، تكفي لأداء الغرض، وتبدو كفيلة بوضع الأمور في نصابها.
يتقاطع القرار الأمريكي هذا، مع مفهوم جارد كوشنير للكيان الفلسطيني العتيد المُرتجى … فهو تجنب ذكر الدولة في وصفه لهذا الكيان، ولم يدرجه في إطار ممارسة حق تقرير المصير، بل اكتفى بحديث مقتضب عن «ترسيم للحدود» بين هذا الكيان ودولة الاحتلال، توطئة لإزالتها … الأمر الذي يثير مخاوف مشروع «حل الدولتين» قد بات «وراء ظهورنا»، وأن صهر الرئيس ربما يريد استعارة نموذج العلاقة بين الصين وهونغ كونغ، (القياس مع الفارق)، أي «دولة واحدة بنظامين»، سيما وأن الرجل يولي اهتماماً بـ»السلام الاقتصادي» كما لم يفعل مسؤول أمريكي من قبله، وهي بنى مبادرة إدارته، على قاعدة مقايضة المال بالحقوق، ونظرية «شراء الأدوار والتسهيلات» بالمال أو بالمزيد منه.
هونغ كونغ جزء من الدولة الصينية، بنظام خاص (دولة واحدة بنظامين)، لا سيادة لها ولا تمثيل دبلوماسي، تصدر جوازات سفر خاصة بها لمواطنيها والصينيين المقيمين إقامة دائمة فيها … هل هذا ما دار في خلد كوشنير وما فكر به عند صياغة في «صفقة القرن»؟ إسرائيل الدولة صاحبة الأرض والسيادة، والفلسطينيون المقيمون يتمتعون بـ»نظام خاص»، يمكِّنهم من انتخاب مؤسساتهم وإصدار جوازات سفرهم، حفظاً ليهودية الدولة ونقائها، وليس خدمة للفلسطينيين … وأن للمعازل التي يعيشون فيها حدوداً جغرافية متحركة، تتناقص ولا تتزايد، ولسكان هذه المعازل الحق في الحركة والتنقل والعمل في المستوطنات الإسرائيلية ومدن التطوير الإسرائيلية كثيفة التكنولوجيا، أو الانتقال داخل الخط الأخضر.
إن كانت هذه هي حدود «الكيان الفلسطيني»، فهو ليس بحاجة لسفارة أو حتى لقنصلية عامة، غرفة واحدة ملحقة بالسفارة تكفي … الموقف الأمريكي هذا منسجم أشد الانسجام مع نصوص وروح مبادرة كوشنير – جرينبلات، كما جرى تسريب بعض من محاورها مؤخراً… لا أحد عليه أن يتفاجأ، ولا أحد يتعين عليه أن يصاب بالصدمة.