ثمة رجال أعمال لبنانيين انتفخت رؤوسهم بأوهام “إعادة إعمار سوريا”، لكن هذا الوهم غير الأخلاقي لم يقتصر عليهم، فالشركات الإماراتية بدأت تستطلع حصتها أيضا، ورجال أعمال كويتيين استأنفوا طموحاتهم الاستثمارية في دمشق. وقبل هؤلاء جميعا ثمة شركات روسية وإيرانية متأهبة للمهمة.
ينطوي هذا على مؤشرين، الأول انخفاض في منسوب الأخلاق، يوازيه انخفاض في منسوب الذكاء. المؤشر الأول يتمثل بأن المستثمر هذا سريعا ما قرر أن الدماء التي أريقت في سوريا ستتيح له فرصا في زمن انعدام الفرص، والمؤشر الثاني يتمثل في ضعف في خيال هذا المستثمر دفعه إلى الاعتقاد أن أموال العالم ستتدفق إلى سوريا لتعويم نظامها.
تحتاج سوريا لـ “إعادة إعمارها” إلى أكثر من 400 مليار دولار. هذا الرقم راح يُداعب مخيلة أصحاب الذكاء الخفيض والأخلاق المنعدمة. الدول المتحمسة لإعادة إعمار سوريا مفلسة. إيران تعيش أسوأ أيامها اقتصاديا بفعل العقوبات الأميركية وبفعل استمرارها بتمويل حروب أهلية في لبنان واليمن والعراق وسوريا. موسكو أيضا تعاني من عزلة اقتصادية خانقة ومرشحة لمزيد من التعثر!
إذا، لم يبق إلا الغرب والخليج؛ وهؤلاء ليسوا جمعيات خيرية، ولتوليهم المهمة شروط سياسية أولا واقتصادية ثانيا، والمشهد السوري الراهن لا يؤشر إلى أن النظام ورعاته الإيرانيين بصدد دفع أثمان.
الحكم الذي أصدرته محكمة أميركية بحق رئيس النظام بشار الأسد وغرمته بموجبه بنحو 320 مليون دولار بتهمة قتل الصحافية ماري كولفن مؤشر على نوع المصاعب التي ستواجه النظام في أعقاب استقرار السلطة له في سوريا. وهذا مؤشر من عشرات المؤشرات، ذلك أن رفع العقوبات عنه لا يتوقف على رغبة حكومات في رفعها، فالدول التي أقرت العقوبات ليس بمقدورها القيام برفعها استجابة لرغبة حكوماتها. ثمة قوانين تقف في وجه هذا النوع من الرغبات، وثمة أحكام قضائية صدرت في أكثر من دولة، والأهم من ذلك أن ثمة ملفات في طور تحولها إلى قضايا قضائية. يجري ذلك في أكثر من دولة معنية بما يتوهمه أصحاب الطموحات الاستثمارية.
قد لا يصح ذلك على دول الخليج التي خطت خطوة نحو دمشق الشهر الفائت. فهذه الدول لا حدود قانونية تفصل بين قراراتها السياسية وبين رغباتها في التراجع عنها. لكن ما يدفع إلى الاعتقاد، بل إلى الحسم بأن الخطوات الانفتاحية الخليجية على نظام دمشق لم تتم على قواعد صلبة، هو حقيقة أوهام تلك الدول بأن بمقدورها سحب النظام من حضن طهران، وهذا وهم كبير لطالما سقطت بمثله إمارات الخليج وممالكه. طهران أقوى في سوريا من النظام نفسه، وتبدو الرغبات الاستثمارية في هذه اللحظة في ذروة سذاجتها ناهيك عن ذروة لا أخلاقيتها!
وهنا علينا أن لا نُغَيِّب واقعة أهم من قرار المحكمة الأميركية بحق الأسد، وهي العقوبات الأوروبية الجديدة على أفراد من “النخبة الاقتصادية السورية الجديدة”. هذه العقوبات ستشكل رادعا حاسما للشركات الخليجية التي وصلت إلى دمشق لاستطلاع فرص الاستثمار فيها. فالعقوبات استهدفت شخصيات ارتبطت مباشرة بـ”مشاريع إعادة الإعمار”، وهي رسالة أوروبية حاسمة في هذا الاتجاه. رسالة سياسية قبل أن تكون إجراء قانونيا.
فالأسماء التي تضمنها القرار شملت وجوها جديدة يراهن عليها النظام للالتفاف على عقوبات سابقة كانت استهدفت نخبته الاقتصادية التقليدية. وهي رسالة تقول إن لا إعادة إعمار من دون تسوية سياسية تنتج شكلا مختلفا للنظام في سوريا.
وهنا لا بد من ملاحظة أوهام النخبة السياسية اللبنانية، في سياق تشكيل الحكومة الجديدة وما رافقها من خطاب كان رأس حربته وزير الخارجية جبران باسيل. فباسيل يريد أن يذهب إلى إعادة إعمار سوريا بعد أن شحّت موارد الفساد اللبناني. وباسيل يريد أن يعيد اللاجئين السوريين إلى بلادهم بالقوة، ويريد أيضا علاقات استثنائية مع النظام في سوريا. وما ينطبق على المستثمرين العرب ينطبق على هذا الخطاب بشكل مضاعف.
كم يبدو الوهم كبيرا إذا ما استعاد المرء حقيقة أن حُزم العقوبات الغربية هائلة ومن الصعب تجاوزها واختراقها، وفي الوقت نفسه تبدو الطموحات الخليجية بإبعاد النظام عن طهران كاشفة لمدى جهل قادة هذه الدول بما جرى ويجري في سوريا.
هذا في ما يتعلق بالشرط السياسي لـ “إعادة الإعمار”، أما الشرط الاقتصادي فله حكاية مختلفة. أوروبا تتخبط بأزماتها الاقتصادية، والخليج شبه مفلس، وطهران وموسكو محاصرتان. وفي ظل هذا المشهد ثمة من يسعى للاستثمار بدماء السوريين، وتتراءى له الـ “400 مليار دولار” وكأنها حقيقة في يد النظام. صاحب هذه الأوهام بلا أخلاق، لكنه أيضا بلا عقل.