لا بدّ من التذكير بين حينٍ وآخر بحقيقة أصبحت ثابتة ومعروفة، لكن يميل كثيرون إلى نسيانها خلال استقراء المجريات السياسية، وهي أن إيران غير معنية بالتعاون في حل أي أزمة ساهمت في صنعها وتعقيدها إلا إذا كانت طرفاً معترفاً به إلى طاولة التسويات ومعترفاً بمصالحه وأطروحاته، بمعزل عما إذا كانت هذه المصالح قواعد عسكرية زرعتها بالتآمر مع قوى الأمر الواقع أو ميليشيات مذهبية عسكرتها وشحنتها ضدّ دولها ومواطنيها أو حتى أضرحة لم يُعرف عنها شيء تاريخياً بل جرى اختراعها لتصبح ذريعة وغطاءً ل «الضرورات» الأمنية. هناك أمثلة ونماذج من كل هذه الحالات وغيرها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، تستخدمها إيران في إدارتها لكلٍّ من النزاعات المنخرطة فيها.
برز هذا المنهج الإيراني مجدّداً في الأيام الأخيرة، فقد زار وزير الخارجية البريطاني طهران للحديث عن الموقف الأوروبي من الاتفاق النووي وكذلك في المسعى الأوروبي لمساعدة إيران في مواجهة العقوبات الأميركية المستجدة عليها، لكن «جيريمي هانت» جاء أيضاً بل خصوصاً للحصول على دعم إيراني للمسعى الذي تتصدره بريطانيا لإنهاء الحرب في اليمن. جاء الجواب بعد أيام برفض «الحوثيين» مشروع القرار الذي قدّمته بريطانيا إلى أعضاء مجلس الأمن الدولي لدرسه قبل مناقشته وإقراره. تلك كانت عيّنة واضحة للدلالة إلى استياء طهران أولاً من تجاهل أولويتها الراهنة، وهي مشكلة العقوبات وانعكاسها على اقتصادها، وثانياً من المقاربة الغربية لدورها في اليمن، والاعتقاد بأن ضغط العقوبات عليها يمكن أن يكون ظرفاً مناسباً لتنازلات عبر «حوثييها» في اليمن.
ما الذي تفعله إيران في العراق؟ إنها تعمل باستمرار على أن تبني معادلة بينها وبين الولايات المتحدة، بحيث تكون لها اليد العليا فيها. صحيح أنها بدت مسهّلة لانتخاب رئيسي الجمهورية والبرلمان، لكن بعدما تأكّدت بأن الرجلين يدينان لها بمنصبيهما غير المحوريَين، أما بالنسبة إلى الحكومة فهي لا تزال تخوض عملية ترويض لرئيسها عادل عبد المهدي، حتى لو اضطر للاستقالة كما يلمّح باستمرار، إذ أجبرته مناورات الميليشياويين التابعين لها على التخلّي عن معايير الكفاءة والاستقلالية التي حددها لاختيار وزرائه وما لبث أن استعاد قاعدة المحاصصة الطائفية والسياسية التي يعلم مسبقاً أن من شأنها أن تشلّ حكومته. انتهى في العراق عملياً حلم التغيير الإصلاحي الذي كان مفهوماً بأنه يريد الخلاص من النهج الإيراني المفروض عليه. وما الذي تفعله في لبنان؟ إنها تشجّع «حزب الله» على ربط ولادة حكومة سعد الحريري برضوخه لشرطها توزير سنّي موالٍ لهذا «الحزب»، علماً بأن الأعراف المتّبعة لا تجيز لأي طائفة التدخّل بتمثيل طائفة أخرى، وثمة من يشتبه بأن هذه العُقدة تهدف إلى إفشال الحريري ودفعه إلى الانسحاب من رئاسة الحكومة.
لكن تأخير الحكومتَين كان ضمن التوقّعات منذ شهور، حتى أن القريبين من إيران كانوا يشيرون إلى هذه العرقلة باعتبارها محسومة، في بغداد كما في بيروت، كجزء من الردّ على الأجندة المعلنة للعقوبات الأميركية. والمغزى واضح هنا، فطهران تريد إظهار مدى تأثيرها ونفوذها، وقد زادتها أزمة العقوبات إصراراً على إشعار الولايات المتحدة والدول الإقليمية المعنية بأنها قادرة على التحكّم باستقرار هذين البلدين. ينطبق ذلك أيضاً على سوريا حيث لا استقرار بعد لكن هناك بحثاً عن بداية لمسار سياسي يُنهي الأزمة، ولم يعد هناك شكّ في أن لإيران يداً في تشدّد النظام السوري وعدم تعاونه الجدّي في أي تفاوض مع المعارضة. وتشير مصادر نظام دمشق إلى أنه يعوّل على الدعم السياسي الإيراني في هذه المرحلة لمواجهة أي ضغوط من الحليف الروسي أو من أي جهة أخرى. وقد أدّى تشدّد النظام إلى تأخير التفاوض على الدستور، وربما إلى تأجيله إلى ما بعد تسلّم المبعوث الأممي الجديد «غير بيدرسن» مهمّاته خلفاً لـ«ستافان ديميستورا».