”التدخل الدولي العاجل بات أمرا لا بد منه من أجل العمل على إنقاذ الوضع الإنساني والصحي والاقتصادي من الانهيار، والعمل على رفع كامل للحصار، وإنقاذ وكالة (أونروا) من الإفلاس، ورفع يد الضغط الأميركية عنها، فضلا عن أهمية إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي وتحقيق الشراكة الوطنية في تحمل المسؤولية. فالجمعية العام للأمم المتحدة والمجتمع الدولي والجميع مطالب بتحمل مسؤولياته، والإسراع لرصد موازنات عاجلة لإغاثة الواقع في غزة، ومنع مزيد من التدهور.”
ليت الأمور في قطاع غزة تراوح مكانها، بل إنَّ كل المعطيات المتوفرة تقول بأن الأوضاع العامة تجاوزت ذلك بالانحدار اليومي على كل المستويات المتعلقة بشروط الحياة اليومية لعموم الناس والمواطنين، فالمؤشرات والمعطيات المتوفرة تؤكد أن الأوضاع الإنسانية والاقتصادية تنهار بشكلٍ مُتسارع في القطاع، في ظل غياب أي حراك حقيقي وفاعل من أجل إنقاذ الوضع الأسوأ منذ بداية الاحتلال الثاني لما تبقى من أرض فلسطين التاريخية عام 1967 وحتى الآن. فكل شيء ينهار بعجلة تصاعدية غير مسبوقة.
إنَّ تقرير البنك الدولي الأخير حول الانهيار الاقتصادي في قطاع غزة وتعرّض الخدمات الإنسانية المُقدمة للسكان للخطر، تقرير هام علينا أن نطَّلع عليه بتمعن شديد، فهو تقرير أممي يعكس حقيقة الوضع القائم في القطاع ويدق ناقوس الخطر. فالتقرير وصف الحالة والواقع بشكل حقيقي، مشيرا إلى أن الأوضاع المتعلقة بحياة الناس المعيشية والاقتصادية والصحية تنحدر بشكل يومي خاصة مع تراجع خدمات وكالة الأونروا مع الشح المالي في مواردها، إضافة لرصد تأثيرات الحصار والإغلاق “الإسرائيلي” المُطبق على القطاع منذ صيف العام 2007.
القوة الشرائية لعموم المواطنين تتضاءل وتتآكل، وإغلاق المصانع والمتاجر أصبح بشكل يومي، فأزمات الحصار منذ العام ٢٠٠٧ تتجمع الآن، وتتفاقم الأوضاع الحياتية بشكل غير مسبوق، يضاف إليها واقع الانقسام الفلسطيني الداخلي الرهيب، وتأثيراته القاتلة، ودخوله في كل بيت، ووصوله لكل موظف وعامل في المؤسسات العامة الفلسطينية وحتى في الأعمال الحرة.
إنَّ الأزمات العامة، والاختناقات الاقتصادية التي تعصف بقطاع غزة، وعموم مواطنيه، تتمثل في العناوين التالي:
أولا: استمرار أزمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) المالية، ووقوعها تحت الضغط الأميركي “الإسرائيلي”، وأبعادها الإنسانية الخطيرة، وتأثيراتها على أكثر من مليون لاجئ في غزة (سيحرمون من تلقي المساعدات الإغاثية والصحية) إضافة لآلاف الطلاب الذين يتلقون التعليم في المدارس وتهديد مستقبلهم، وكذلك الخدمات الصحية للاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون نحو 66% من سكان ومواطني القطاع، وذلك حال استمر الواقع المالي المتردي للوكالة على ما هو عليه، واستمر التراجع في مداخليها المالية التي تقدمها لها الدول المانحة.
ثانيا: عدم القدرة على إعادة بناء ألفي منزل مُهدمين بشكل كلي منذ عدوان الاحتلال على القطاع العام ٢٠١٤، بسبب عدم إيفاء المانحين من الدول، بكامل التزاماتهم المالية، والقيود “الإسرائيلية” اليومية على إدخال مواد البناء الأولية اللازمة لعملية إعادة الإعمار.
ثالثا: الحصار الخانق، الذي أفضى لتفاقم معدلات الفقر والبطالة، حيث نحو ٣٥٠ ألف عامل عاطل عن العمل في مجتمع فتي تكثر فيه نسبة من هم دون العشرين عاما لتتجاوز نحو 60% من السكان. فأكثر من مليون ونصف في القطاع يعيشون تحت خط الفقر، والأعداد في تزايد، و٨٥٪ من المصانع والورش أغلقت كليا أو جزئيا، فيما معدل البطالة ببن فئة الشباب وصل قرابة ٦٢٪.
رابعا: أزمة الكهرباء والطاقة والمياه، حيث تصل الكهرباء يوميا لمدة أربعة ساعات فقط، فيما المياه غير منتظمة في الوصول للبيوت، عدا أن ٩٥٪ من المياه غير صالحه للشرب. ونشير هنا أيضا أنَّ أكثر من ٥٠٪ من الأدوية والمستهلكات الطبية بات رصيدها صفريا في المستشفيات عموما.
إنَّ حقيقة الوضع في قطاع غزة، تدفعنا للقول إنَّ اللعبة الأميركية “الإسرائيلية” التي تتحدث عن ضرورة إنعاش قطاع غزة اقتصاديا، وعن مقترحات لتحويل القطاع إلى “سنغافورة الشرق الأوسط”، ليست سوى أوهام للبيع، وهي دعوات غير نظيفة ولا صافية، بل تأتي في سياق اللعبة المقترحة تحت عنوان حل “صفقة القرن”، فالبلاء العام في القطاع وعموم الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 سببه الرئيسي وجود الاحتلال ذاته، وبانتهائه يمكن الحديث عندها عن تعاون دولي حقيقي لمساعدة الفلسطينيين وإعادة بناء اقتصادهم المدمر في ظل وجود الاحتلال وتجسيداته على الأرض.
من جانب آخر، لا يغيب عن بالنا وجود ضعف وتراجع في الدعم العربي والدولي لمعظم المشاريع المعنية بالقطاع، في وقت يغيب فيه أي حراك دولي حقيقي جدي وفاعل للضغط على الاحتلال لرفع الحصار غير القانوني وغير الأخلاقي وغير الإنساني، وما ينتج عنه حالة غير مسبوقة من السوء إنسانيا واقتصاديا، وبالتالي إنهاء الاحتلال، فكل ما تطرحه الإدارة الأميركية ليس سوى عناوين التفافيه لتمرير “صفقة القرن”.
وهنا علينا أن نقول بأن التدخل الدولي العاجل بات أمرا لا بد منه من أجل العمل على إنقاذ الوضع الإنساني والصحي والاقتصادي من الانهيار، والعمل على رفع كامل للحصار، وإنقاذ وكالة (أونروا) من الإفلاس، ورفع يد الضغط الأميركية عنها، فضلا عن أهمية إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي وتحقيق الشراكة الوطنية في تحمل المسؤولية. فالجمعية العامة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي والجميع مطالب بتحمل مسؤولياته، والإسراع لرصد موازنات عاجلة لإغاثة الواقع في غزة، ومنع مزيد من التدهور، عبر سلسلة من الخطوات والقرارات تتخذ بالتوازي، يمكن أن تتعافى من خلالها غزة في حال طبقت كاملا خلال ثلاثة سنوات.
إن حالة القطاع تتطلب رفع الحصار “الإسرائيلي” الجائر فورا بضغط من المجتمع الدولي والأمم المتحدة، وفتح كافة المعابر التجارية، والسماح بحرية الاستيراد والتصدير دون قيود وقوائم ممنوعات تضعها دولة الإحتلال، والسماح بإدخال المواد الخام للازمة للصناعات وهو ما سيمكّن إعادة تشغيل المصانع المغلقة، حيث نحو 85% من المصانع مغلقة بشكل كلي أو جزئي بسبب الحصار والاعتداءات. فضلا عن ربط غزة والضفة الغربية بالممر الأمن مع الضفة الغربية بعيدا عن تقييدات الاحتلال، وتشغيله بشكل فوري، ما يخلق حركة تجارية نشطة، وتبدأ عملية ضخ الأموال في السوق من خلال الحركة التجارية وحركة الأفراد، وهو مايسهم بتشغيل الشباب والخريجين والعمال.
أخيرا، على الجميع أن يدرك أن حصار بقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترا مربعا، وتركها تحت الموت البطيء، سيدفع بالضرورة نحو طوفان قادم، طوفان شعبي، وتحدٍّ يزداد عمقا للحصار القائم من الجهات الأربع. فحصار غزة مدجج بالموانع والأسلاك الشائكة والحراسة، حيث يمتزج عبره الألم بالحصار بالدماء وبالأمل والمستقبل.
إنقاذ قطاع غزة قبل الطوفان /علي بدوان
12
المقالة السابقة