يعدّ التعليم أحد أعمدة الأمن الوطني الشامل، وركيزة أساسية للنهضة والتطور، حيث أصبحت مؤسسات التعليم بمختلف مستوياتها مراكز للتنوير والتغيير والبناء الاجتماعي والثقافي وتحقيق التنمية المستدامة. والتعليم العالي في الأردن منذ تأسيسه كان له الدور الفعّال والملموس في رفد الوطن بالكوادر المؤهلة التي شاركت في بنائه ونهضته، وكان بلا شك لسياسات التعليم ومدخلات الجامعات ومخرجاتها المتميزة الأثر الإيجابي الكبير على سمعة التعليم ووضع الأردن ضمن قائمة أفضل الدول التي تقدم الخدمة التعلمية.
طلب متزايد.. وتراجع
وقد شهد التعليم العالي في الآونة الأخيرة تراجعاً واضحاً تزامن مع ازدياد الطلب الملحوظ لأسباب ديموغرافية واجتماعية، كازدياد عدد السكان وارتفاع عدد الخريجين من الثانوية العامة والإقبال الكبير على المرحلة الجامعية، والتوسع في إنشاء الجامعات الحكومية والخاصة، وعزوف الطلبة عن الدراسة بالخارج لارتفاع التكاليف الدراسية، وبخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها. كما أن ثقافة المجتمع السائدة لعبت دوراً أساسياً في زيادة الطلب على التعليم الجامعي، تمثلت في ضرورة الحصول على الشهادة الجامعية كضمان وحيد للحصول على وظيفة أو مركز قيادي، فضلاً عن التشريعات الناظمة التي عززت هذه الثقافة مما كان له الأثر السلبي على الهرم التعليمي في المجتمع، فأصبح مقلوباً لصالح الدراسات الإنسانية على حساب الدراسات العلمية والتقنية والمهنية، وأصبحت مخرجات التعليم لا تتواءم مع متطلبات المجتمع واحتياجات أرباب العمل لكوادر تمتلك مهارات المعرفة والاتصال والعمل بروح الفريق وتتمتع بالتفكير النقدي والتكيف مع بيئة العمل والإخلاص لها، أي تلك الكوادر المتسلحة بالمهارات العلمية والتقنية والمهنية، مما أدى إلى عدم التوازن في أعداد الخريجين واحتياجات سوق العمل.
وعلى الرغم من اهتمام الأردن بالتعليم العالي من خلال وضع الاستراتيجيات من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي واللجنة الوطنية لتطوير الموارد البشرية، واللجنة النيابية المنبثقة عن مجلس النواب الأردني، إلا أن التعليم العالي يواجه تحديات كبيرة أكدها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله في ورقته النقاشية السابعة، الذي شدد فيها على أهمية قطاع التعليم وبناء القدرات البشرية وتطوير العملية التعلمية كأساس للإصلاح الشامل في المجتمع وتحوله إلى مجتمع يقود عجلة صناعة المعرفة ويتيح الفرصة للعلماء والباحثين والمفكرين والمبتكرين لإبراز دورهم في إحداث التغيير.
أسباب تراجع التعليم
وقد اجتمعت عدة أسباب وعوامل ساهمت في تراجع التعليم، وبخاصةٍ التعليم العالي في الأردن يمكن إيجازها بما يأتي:
أولاً: شح الموارد المالية المخصصة لتمويل الجامعات الرسمية، مما دفعها لاستحداث البرامج الموازية والدولية الذي أدى بدوره لتضخم الجسم الطلابي لاستيعاب أعدادٍ فوق طاقاتها الاستيعابية، فأصبحت الشعب الدراسية لكليات الطب وطب الأسنان والصيدلة والهندسة وغيرها مكتظة بالطلبة ومخالفة لمعايير الاعتماد وضبط الجودة المحلية والعالمية.
ثانياً: توسع القبول الجامعي الرسمي والاستثناءات التي تشكل عبئاً مالياً وتعلمياً، الأمر الذي أدى إلى تهديد توجه الطلبة للتسجيل في الجامعات الخاصة؛ مما تسبب في حدوث تنافس محموم فيها لاستقطاب الطلبة على أسس ليست علمية ومن ثمّ أدت إلى تراجع نوعية المخرجات ومهارات المعرفة المكتسبة.
ثالثاً: هجرة الكفاءات الأردنية من الطاقم التدريسي إلى الجامعات الخارجية والتي تضاعفت أعدادها في العقدين الماضيين.
رابعاً: تزايد أعداد الجامعات الخاصة في الدول العربية، مثل جمهورية مصر العربية ودول الخليج العربي التي تحظى بدعم حكومي، والسماح لهم منذ البداية بطرح تخصصات الطب والمهن الطبية المتنوعة التي استقطبت طلبة بأعداد كبيرة من دول المنطقة كافةً حتى من الأردن، الأمر الذي أدى إلى ضعف الإقبال على الجامعات الأردنية من الجنسيات العربية الأخرى وبخاصةٍ أبناء العاملين في الخليج العربي، فترتب عليه انخفاض في الأعداد.
خامساً: عدم مواكبة التطور والتغيير في ميدان التدريس الجامعي وتمسك المدرسين بالطرق التقليدية القديمة والمعتمدة على التلقين والحفظ والاسترجاع، وتدني الاتجاهات نحو توظيف الوسائل التعليمية والطرق الحديثة في التدريس واستخدام التكنولوجيا التي تسهم في تطوير مهارات الدارسين، وترتقي بهم لمهارات من مستويات أعلى تصل إلى التفكير الناقد والتحليل والاتصال والعمل الجماعي.
سادساً: ضعف القدرة على قياس مخرجات العملية التعليمية بطرق موضوعية، مرتبطة بأهداف واقعية تعكس احتياجات سوق العمل.
سابعاً: الاعتماد على نتائج الثانوية العامة كأسس للقبول في الجامعات الأردنية وفقاً للمعدلات فقط، متجاهلين الطموح المهني والميول والاتجاهات للطلبة المستجدين، أو قدراتهم واستعداداتهم المتعلقة بالتخصص المختار؛ مما يؤدي إلى تخريج أعدادٍ كبيرة في تخصصات لا يستفاد منهم وهذا ما نطلق عليه (البطالة المقنعة)؛ لكونهم انخرطوا في برامج مفروضة عليهم ليست من اختيارهم؛ مما يقلل من فرص الإبداع والتميز واستفادة المجتمع من كل هذه الكوادر.
ثامناً: ضعف الخطط الدراسية لكثير من التخصصات الحديثة و افتقارها للتدريب العملي وعدم تماشيها مع متطلبات السوق (ضعف الإعداد ما قبل الخدمة).
تاسعاً: ضعف الاهتمام بالإعداد ما بعد الخدمة؛ ومن ثم عدم القدرة على تضييق الفجوة بين التعلم النظري أثناء مرحلة الدراسة والتطبيق العملي في الميدان.
عاشراً: تفشي ثقافة الواسطة في المؤسسات التعليمية خلال التعيينات على صعيد الجسم الأكاديمي، الجسم الإداري، والقبولات وتدخل المجتمع المحلي بالشؤون الداخلية للمؤسسات التعليمية وإداراتها.
حادي عشر: ازدياد ظاهرة العنف في الجامعات التي تخلق جواً غير مناسب للدراسة والبحث والابتكار.
ثاني عشر: الفجوة الكبيرة بين مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل من مصانع وشركات ومؤسسات سواء كانت رسمية أو خاصة نتيجة ضعف البحث العلمي الموجه لخدمة احتياجات المجتمع في المجالات كافةً، بالإضافة إلى ضعف التمويل الحقيقي للبحث العلمي والذي يهدد في معظمه النواحي الإدارية.
إن التحديات المالية والمستقبلية التي تواجه التعليم العالي في الأردن تتطلب وضع الخطط العلمية المدروسة لمواجهتها والتعامل معها بشكل جدي، وفي كل الأحوال لابد أن يكون مرتبطاً بالمجتمع المحلي واحتياجاته لخدمته والرقي به، ومتصلاً بما يحدث خارج حدود المملكة عربياً وعالمياً، ومتوائماً مع المستجدات والاحتياجات العالمية، وهذا يتطلب توفر إرادة حقيقية في إصلاح التعليم العالي وتحديد زمن وخارطة طريق لتنفيذ مشاريع الإصلاح دون تباطؤ ووضع الآليات لقياس تنفيذها.
خريطة طريق لإصلاح التعليم
وهنا تأتي الحاجة لدراسة تجارب الدول المتقدمة والاستفادة منها والتي أدركت أن مؤسسات التعليم المختلفة والتقدم العلمي والتكنولوجي الطريق الوحيد للنمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة، فكان جل اهتمامها وتركيزها على تطوير العملية التعلمية والبحث العلمي وتخلت عن طرائق الحفظ والتلقين، واعتمدت التفاعل بين الأستاذ والطالب، وعززت التفكير المستقل والتفكير الإبداعي ومهارات النقد والتحليل.
ولتحقيق التغيير في التعليم العالي من أجل التطوير والارتقاء والتنافسية الإقليمية والعالمية، لابد أولاً من الاعتراف بواقع الحال، وتناول قضايا التعليم العالي كمنظومة وطنية متكاملة، وتعزيز التشاركية الحقيقية بين القطاع التعليمي الحكومي والخاص.
وهذا يتطلب تغييراً فعلياً في عقلية القيادات التربوية، وطرائق تفكيرها على المستوى الوطني والتعامل مع القضايا التالية بشكل جديّ وعلميّ:
أولاً: إعادة النظر بمعايير وأسس القبول للمؤسسات التعليمية وعدم الاكتفاء والاعتماد الكلي على نتائج الثانوية العامة كأساس وحيد للقبول في التعليم العالي، وذلك باستحداث امتحانات قبول تأخذ بعين الاعتبار الميول والاستعدادات وتقيس القدرات والمهارات، وإلغاء البرامج الموازية وتطبيق معايير الاعتماد والجودة على المؤسسات التعليمية كافة. كما لا بد من إجراء استطلاع مبكر لطلبة الثانوية العامة لتحديد التخصصات التي يرغبون بدراستها في الجامعة أو في المعاهد أو الكليات بعد تقديم الإرشاد المهني لهم وتوجيههم وتوعيتهم باحتياجات سوق العمل للمهارات والتخصصات المختلفة.
ثانياً: منح الجامعات الحرية الأكاديمية، واعتماد سياسة الدعم المستندة إلى الأداء في الإدارة والتميز في مجال البحث العلمي، وذلك بوضع مؤشرات قابلة للقياس بحيث تكون واضحةً ومعلنةً لجميع المؤسسات مع ضرورة تغيير نمط العلاقة بين الحكومة ومؤسسات التعليم العالي من نموذج رقابة الدولة إلى نموذج إشراف الدولة، وذلك بمنحها الاستقلال الموضوعي والإجرائي، لتصبح المؤسسات التعليمية قادرة على تحديد سياساتها الأكاديمية والبحثية والتخصصات المطروحة وطرائق تدريسها، بالإضافة إلى حرية المؤسسة في إدارة شؤونها المالية والإدارية وتطوير مواردها، شريطة أن ترتبط الحرية بالمساءلة وأسس حوكمة الجامعات.
ثالثاً: تشجيع التعليم التقني والمهني من خلال سن تشريعات تكون غايتها إحداث تغيير في ثقافة المجتمع السلبية الشائعة، وتحسين ظروف العمل بهذا القطاع وإصدار رخص مزاولة لخريجيها لتصبح شرطاً أساسياً للتوظيف في القطاع الحكومي والخاص؛ وإجبار من لا يملك مثل هذه الرخص على ضرورة الحصول عليها من قبل مؤسسات مختصة لهذه الغاية.
رابعاً: الاهتمام بإعداد وتأهيل الهيئة التدريسية وتدريبهم على مهارات التعليم والطرائق الحديثة في التدريس والابتعاد عن الطرائق التقليدية والتركيز على وسائل التعليم والتكنولوجيا، مثل التعليم الإلكتروني المدمج وغيره، وتفعيل برامج التقييم الدورية لأعضاء هيئة التدريس؛ المستندة إلى مدى تفاعله واستخدامه للتكنولوجيا ونتائج الأبحاث العلمية وتحقيق أهداف البرامج الأكاديمية كمخرجات للتعليم.
خامساً: دعم البحث العلمي في الجامعات، وإنشاء المراكز الوطنية للأبحاث المرتبطة بمراكز الأبحاث العالمية والتي تضمن التشارك بين الباحثين في المؤسسات التعليمية كافةً وتضمن عدم إهدار المال والجهد، وتحقق نتائج بحثية متوائمة مع الأبحاث العالمية.
سادساً: تعزيز فكرة تدويل التعليم العالي من خلال خطوات متعددة؛ منها السماح للبرامج المشتركة مع الجامعات العالمية، وتوقيع برامج التوأمة وتنفيذها والتأكيد على شمولها البحث العلمي والتأليف المشترك، وانتقال الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، كما لابد من التركيز على الابتعاث للدول المتقدمة والصناعية وربط تأسيس أي مؤسسة تعليمية أو طرح أي برنامج بأعداد المبتعثين شريطة ألا يقل عن 25% من الطاقم التدريسي.
سابعاً: السماح للجامعات الأردنية بإنشاء فروع لها خارج الأردن، من أجل نقل المعرفة والاستفادة من النظم التعليمية المعمول بها في الدول الأخرى.
ثامناً: تعزيز ثقافة الجودة لمؤسسات التعليم العالي المختلفة وضرورة حصولها جميعاً على شهادة الجودة للمؤسسات والبرامج المطروحة من قبل هيئة اعتماد مؤسسات التعليم الأردنية بالإضافة إلى الهيئات العالمية المتخصصة.
تاسعاً: التأكيد على أهمية استقطاب الطلبة غير الأردنيين للجامعات الأردنية، علماً أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خطت خطوات إيجابية ما زالت تحتاج إلى جهود رسمية في شمول جميع المؤسسات التعليمية في الأردن بالاعتماد والاعتراف من قبل الدول العربية، وبخاصة دول الخليج حيث أن عدداً من الجامعات الأردنية ليست مدرجة ضمن الجامعات المعتمدة، وهذا يشكل عائقاً حقيقياً في استقطاب الطلبة.
عاشراً: التركيز على تدريس الطلبة في جميع التخصصات للمصطلحات العلمية والعالمية المتعارف عليها وتحديداً باللغة الإنجليزية مع ضرورة تعزيز اللغة العربية. وتوجيه الطلبة لتعلم لغة أجنبية ثالثة مثل الألماني أو الفرنسي لزيادة فرص التنافسية في سوق العمل الخارجي.
حادي عشر: استخدام التكنولوجيا الحديثة و أدواتها مثل أجهزة الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي والتعليم الالكتروني في العملية التعليمية لمواكبة التغيرات المتسارعة لتتواءم مع تحديات العصر والتفاعل معها لاكتساب مهارات تتناسب و احتياجات سوق العمل في القرن الحادي والعشرين.
ثاني عشر: تبني النظام التعليمي متعدد التخصص الذي ينمي سعة الافق, ويحفز التفكير، ويساعد الخريج على بلورة مشروع منتج مما يعزز الشراكة بين المؤسسة التعليمية والاحتياجات الوطنية للمجتمع الامر الذي يرسخ ثقافة العمل الحر بتاسيس مشاريع و شركات ريادية.
وفي الخلاصة، ان الاصلاح في التعليم العالي يتعدى مرحلة وضع الحلول النظرية الى مرحلة التطبيق العملي المدروس والممنهج بخطط تنفيذية قابلة للقياس في مراحله المختلفة ضمن اطار زمني محدد لضمان الجدية و الوصول للنتائج المرجوة.
* رئيس جامعة عمان العربية