قراءة في كتاب.. مدخل الى نقد التوراة – رؤية من الداخل
تأليف: الدكتورة كريمة نور عيساوي
عرض: أدهام نمر حريز
عروبة الإخباري – شاسة علمية نقدية، مطبقا منهج علماء المسلمين في نقد الحديث، أي نقد المتن والسند، أو ما يحلو لبعض الدارسين تسميته بمنهج النقد الداخلي والخارجي، مما جعل العديد من علماء العهد القديم ونقاده قديما وحديثا يعتمدون عليه في دراستهم لنشأة علم نقد الكتاب المقدس وتطوره، وعلى رأس هؤلاء الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا ( 1633 –1677).
ومن المعلوم أن علم نقد العهد القديم قد تطور عند الغربيين مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتنوعت مدارسه تنوعا كبيرا من خلال مناهجها وطريقة عملها؛ ومن هذه المدارس: مدرسة النقد التاريخي، ومدرسة النقد النصي، ومدرسة النقد الأدبي، ومدرسة النقد المصدري.
إن هذا العمل الذي بين أيدينا عمل جدير بالتقدير والاحترام، وهو إضافة نوعية متميزة للمكتبة العربية والإسلامية في باب الدراسات النقدية للتوراة، حيث استطاعت صاحبته الباحثة المقتدرة /كريمة نور عيساوي وهي المتخصصة في الدراسات التوراتية، أن تجمع في عملها هذا بين المناهج القديمة والحديثة، وأن تعرض آراء العلماء المسلمين والغربيين قديما وحديثا مقارنة أحيانا فيما بينها ومرجحة بعضها أحيانا على بعضها الآخر، ومعترضة أحيانا أخرى عليها جميعا، وطارحة أحيانا أخرى تساؤلات عميقة لا تصدر إلا عن باحث متمكن مقتدر.
لن أطيل على القارئ الكريم وأتركه يستمتع بقراءة مباحث وفصول هذا العمل الجاد، مع تمنياتي للباحثة مزيدا من العطاء العلمي والتألق الفكري لما فيه مصلحة الأمة الإسلامية في العاجل والآجل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة: 105] صدق الله العظيم.
مدخل الى نقد التوراة
يندرج هذا الكتاب في إطار البحوث التي تهتم بنقد التوراة، وذلك اعتمادا على المناهج العلمية الأكاديمية بعيدا عن التعصب الديني.
بهذه المقدمة استفتحت الدكتورة/ كريمة نور العيساوي كتابها، وهي تؤكد على العلمية في هذا البحث بعيدا عن التحليل النمطي.
ولقد افتتحت كتابي هذا في الفصل الأول بتعريف للكتاب المقدس (La Bible ) على اعتبار أن التوراة جزء لا يتجزأ منه، ثم عرجت على تعريف التوراة بأسفارها الخمسة متناولة بكثير من التفصيل مختلف التسميات التي أُطلقت عليها، والمراحل الطويلة التي مرت بها منذ أن كانت عبارة عن نصوص شفوية تحفظ في الذاكرة الجماعية إلى أن أضحت كتابا يتلى في البيع والكنائس.
ولم تفتني الإشارة في هذا السياق إلى النصوص القانونية وغير القانونية في الديانة اليهودية والمسيحية، مع التعريف بمختلف الترجمات التي شهدتها التوراة العبرانية إلى لغات أخرى مثل الترجمة السبعينيةٍ (La Septante)، والترجمة اللاتينية المعروفة بالفولكاتا (La Vulgate )، والترجمة الآرامية المشهورة باسم الترجوم ( Le Targum).
وقد عرضت قضية المخطوطات المكتشفة، وأماكن تواجدها، والخط التي دُونت به أسفار التوراة، وما توصل إليه العلماء بعد اكتشافها حيث غيرت مجموعة من المعطيات والتي كانت إلى عهد قريب من المسلمات. وتشكل هذه الموضوعات جميعها محور الفصل الأول.
أما الفصل الثاني فكان عبارة عن جرد تاريخي لأهم الدراسات التي تناولت موضوع نقد التوراة ابتداء من علماء اللاهوت المسيحي الذين كان لهم موقف نقدي من التوراة، جمع ما بين نقد النص ونقد العقيدة، مرورا بابن حزم الأندلسي الذي أرسى بعض أسس الدراسة النقدية للتوراة في ضوء مفهوم محدد للتحريف قبل العلماء الغربيين بستة قرون، وانتهاء بباروخ اسبينوزا وريشارد سيمون وجون أستروك و يوليوس فلهاوزن.
وفي دراستي لنقد التوراة وتطوره التاريخي قدمت لمحة موجزة لهذا النقد في كل من المسيحية واليهودية.
أما في مقاربتي لأثر العلماء المسلمين في نقد التوراة، وعلى رأسهم ابن حزم الأندلسي، فقد أثرت مجموعة من الإشكالات من قبيل: ما مدى معرفته بالتوراة العبرانية، والتوراة السامرية؟. وهل كانت له دراية باللغة العبرية مما مكنه من العودة إلى النص التوراتي في لغته العبرية، أم أنه كان يعتمد على التوراة في نسخها المترجمة إلى اللغة العربية؟ وإلى أي حد تحكمت نظرية التحريف المستلهمة من القرآن الكريم في قراءته ونقده للنص التوراتي؟ وما هي المصادر التي اعتمد عليها في نقده للتوراة؟ كما لم تفتن الإشارة إلى منهجه في النقد. واختياري لكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لم يكن اعتباطا بل جاء نتيجة لمجموعة من العوامل:
1_ أهمية هذا الكتاب في مجال نقد التوراة.
2_ انتماء ابن حزم الأندلسي إلى الأندلس الإسلامية التي كانت مركزا لتعايش خليط من الأجناس والأديان.
3_ مجادلة ابن حزم الأندلسي لعدد من اليهود، وعلى رأسهم ابن النغريلة، الأمر الذي دفع بالعلماء اليهود إلى الاهتمام بهذا العالم، وبكتبه في مجال المجادلة والنقد، ونخص منهم على وجه التحديد أبرهام بن عزرا الذي جاء بعد وفاة ابن حزم بفترة قصيرة، والربي اليهودي المغربي الفاسي سليمان بن ميلخ، وكذلك العالم اليهودي إسحاق بن يشيش ( Isaac Ibn Yachouch)، وغيرهم من العلماء اليهود الذين كانوا قنطرة عبرت من خلالها أعمال ابن حزم الأندلسي إلى الآخر وفي مقدمتهم العالم اليهودي باروخ سبينوزا الذي يعتبره الغرب مؤسس نقد التوراة.
وقد حاولت قدر المستطاع وحسب ما توفر لدي من معلومات موثقة، أن أبين الدور الفعال الذي قام به ابن حزم في مجال نقد التوراة، وكيف استفاد منه العلماء الغربيون، وعلى رأسهم باروخ سبينوزا، وكيف تجاهل الغرب هذا السبق العلمي والحقيقة المؤكدة، والتي أشار إليها القرآن الكريم منذ مئات القرون، والتي تبناها العلماء المسلمون.
ثم قدمت تعريفا للحركة العلمية لنقد التوراة (والكتاب المقدس بشكل عام) في الغرب الأوروبي وتطرقت إلى أعلام هذه المدرسة أمثال باروخ سبينوزا في كتابه المشهور (رسالة في اللاهوت والسياسة)، وجون أستروك Jean Astruc في كتابه Conjectures sur la genèse)) ، وريشارد سيمون Richard Simon في كتابه الذي أثار جدلا كبيرا (Histoire critique du vieux testament)، وأخيرا يوليوس فلهاوزن ( Julius Wellhausen ) من خلال كتاباته في مجال نقد التوراة، أي نظرية المصادر.
وفي معرض حديثي عن رحلة التوراة من عهد موسى عليه السلام إلى عصرنا الحالي، ثم أثناء تأريخي لعلم مقارنة الأديان ونقد التوراة، اعتمدت على المنهج التاريخي كما وظفت المنهج التحليلي المقارن في دراستي لابن حزم الأندلسي وباروخ سبينوزا، واستعملت المنهج الاستقرائي في دراستي لبعض نصوص التوراة.
ولابد من الإشارة إلى أنني اخترت في صياغة إحالات هذا البحث الطريقة الآتية: اسم المؤلف:عنوان الكتاب ثم الصفحة، على أساس أن المعلومات الخاصة بالكتاب سيجدها القارئ في فهرس المصادر والمراجع.
الفصل الأول/العهد القديم: التعريف والمضمون
نلج الى هذا الفصل، الذي كانت مقدمته تعريفية بالديانة اليهودية.
إن اليهودية هي أول الديانات السماوية التوحيدية التي خلفت نصا دينيا، يُعتبر أصل التشريع اليهودي، والأساس الذي تقوم عليه، والمرجع الذي يضمن لها الاستمرار، خاصة بعد وفاة نبيها ومؤسسها موسى عليه السلام، فكانت التوراة في نظر اليهود وحيا صادقا من الله لا يشوبه تحريف أو تدبيل. إلا أن الباحثين اختلفوا في تسميته، وفي مدونيه، وفي صحة سنده وكذا في تاريخ تدوينه.إلى جانب اختلاف المذاهب اليهودية والتقاليد المسيحية في عدد أسفاره وترتيبها.
لهذا ارتأيت أن أقدم في هذا الفصل تعريفا للكتاب المقدس، باعتبار التوراة جزءا لا يتجزأ منه، ثم أعرج للتعريف بالتوراة وبمختلف التسميات التي أطلقت عليها، وانتقل بعد ذلك للحديث عن المراحل التي مرت بها منذ أن كانت نصوصا شفوية تُحفظ في الذاكرة الجماعية إلى أن أضحت كتابا تشريعيا ومرجعا دينيا يُتلى في البيع والكنائس.
ولا تفوتني في هذا السياق الإشارة إلى النصوص القانونية وغير القانونية في الديانة اليهودية والمسيحية وموقف الكنائس منها، كما سأتطرق لأهم المخطوطات التي تم العثور عليها وكذا أماكن تواجدها وبعض المعلومات الخاصة بها سواء على مستوى الخط أو لغة التدوين، ثم أنتقل بعد ذلك للحديث عن مختلف الترجمات التي عرفتها التوراة العبرانية دون إغفال اللغات التي دونت بها، مع الإشارة لأسباب ودوافع هذه الترجمات والأهداف التي تحققت من ورائها.
وبعدها بدأت بالبحث الأول/الكتاب «المقدس» وعرفت في مقدمته مكونات الكتاب المقدس , و العهد القديم و الجديد ((وينظر اليهود والمسيحيون إلى العهد القديم لا على أساس أنه مجرد كتاب يتضمن كلام الله، وإنما بصفته كلام الله بعينه، وأن الله هو المؤلف الحقيقي، وقد خطه الله بنفسه مثلما هو الأمر في الوصايا العشر: « وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ وَامْكُثْ هُنَاكَ لأُعْطِيَكَ الْوَصَايَا وَالشَّرَائِعَ الَّتِي كَتَبْتُهَا عَلَى لَوْحَيِ الْحَجَرِ لِتُلَقِّنَهَا لَهُمْ »؛( )أو خطه الأنبياء بدءا من النبي موسى وانتهاء بحجاي وزكريا وملاخي، بوحي النبوة كما هو الحال في التوراة وكتب الأنبياء، أو خطه أناس ملهمون كما هو الحال في بقية الأسفار.
ثم عرجت على تعريف اقسام العهد الجديد في المطلب الثاني (( قول بولس: « فهو الذي مكننا أن نكون خدم عهد جديد؛ عهد الروح، لا عهد الحرف؛ لأن الحرف يميت والروح يحيى». )) . ثم عددت اقسام العهد الجديد واسهبت في الحديث عن تاريخ هذه الاسفار .
وفي المبحث الثاني/مفهوم التوراة (العهد القديم)، استفتحت البحث بتعريف التوراة ((تُشتق كلمة التوراة، التي يختلف علماء اللغة العربية القدامى في مدى أصالتها، من قولهم ورت ناري، ووريت، وأوريتها، إذا استخرجت ضوءها، لأنه قد استخرج بها أحكام شرعة موسى أو أخذت من أوريت الزناد ووريتها. ويجنح الأب المرمرجي الدومنيكي إلى القول: إن التوراة في أصلها العبري תורה مشتقة من الجذر العربي ( أر) الذي يدل على إيقاد النار، ويقابله في العبرية אר أي النار أو النور. ومن أر يأتي، بعد قلب الهمزة واوا، اللفيف المفروق ورى. ومن النار يتولد النور الذي يدل مجازا على العلم و التعليم والشريعة.
ثم تكلمت عن الاسفار التي تتكون منها التوراة , وتحدثت بإسهاب عنها .ترتيبها و تاريخها , وتدوينها . والفروقات في الاسفار بين البروتستانت و الكاثوليك .
يلاحظ مما سلف أن ترتيب أسفار العهد القديم عند الكاثوليك يختلف عن الترتيب اليهودي. فالتوراة، وهي القسم الأول،يعقبها قسم ثان يُسمى الأسفار التاريخية، والذي يقابل الأنبياء المتقدمين، وقسم ثالث يُطلق عليه اسم الأسفار الشعرية، ويقابل سفر المكتوبات. ويُعرف القسم الرابع باسم أسفار الأنبياء. ويبدو أن هذا الترتيب، الذي تبنته المسيحية، لم يكن اعتباطيا، بل إنه يعكس في جوهره تسلسل الأحداث واتجاهها نحو تحقيق النبوة التي تُوجت بمجيء المسيح، والذي سيكون نواة العهد الجديد« أي أنهم يسلمون عددا من الأسفار أكثر مما يسلمه اليهود أنفسهم،ومما يذكر- هنا- أن هذه القائمة الكبرى من أسفار العهد القديم قد أقرها مجلس علمائهم المنعقد في ترنت Trent من سنة 1554م إلى سنة1563 م.
أما في الترتيب اليهودي، فإن التوراة تمثل نواة الوحي المنزل على موسى، ولا يقوم الأنبياء إلا بتحيينها، فيما كانت المكتوبات أشبه بالتكملة التي يتم فيها إيراد أدعية وابتهالات إسرائيل.
وفي البحث الثالث/إشكالية جمع التوراة وتدوينها , تطرقت الى مراحل تدوين التوراة ( الشفوية و الكتابية ) , والمراحل التي مر بها اليهود بجميع مراحلها و لغاية السبي البابلي وما بعده , و الإشكالية في تقنين التوراة , و موقف اليهود والكنائس المسيحية من أسفار العهد القديم الخفية .
وفي البحث الرابع/البنية النصية للتوراة(مورفولوجيةالتوراة) , إشارة الى لغة التوراة ((إن مشكلة اللغة التي كُتب بها العهد القديم ليس من السهل تجاوزها، و لا حتى التقليل من شأنها، وذلك بسبب الإشكالات الكثيرة التي لا يزال يُثيرها مثل هذا الموضوع لدى فئة كبيرة من علماء اللغة والساميات والخط والأديان والتاريخ والآثار. فما كان يُردد قديما أو ما يُروج له حديثا في بعض الأوساط الدينية بأن اللغة العبرية هي لغة العهد القديم، لم يعد الآن- بعد انحسار التفكير الديني في الغرب- مُقنعا، كما كان الأمر في الماضي، أو يحتاج مثل هذا القول العام-على الأقل- إلى سند تاريخي قوي (نقوش أو مخطوطات أو مصادر تاريخية) إذا ما أراد فعلا أن يُضفي على نفسه شيئا من الموثوقية.
لا شك في أن العبرية ترتبط بالديانة اليهودية. وهناك قرائن لا حصر لها تؤيد هذا الارتباط الذي لم يكن فقط سببا في وجود تراث ديني يهودي ضخم، وإنما كان له أيضا دور بالغ الخطورة في بقاء اللغة العبرية، وعدم تعرضها للزوال( ). هذا في الوقت الذي اندثرت فيه إلى الأبد لغات سامية أخرى مثل الأكادية التي تفوق اللغة العبرية من حيث عدد المتكلمين، ومن حيث سعة الانتشار، ومن حيث إشعاعها الثقافي والفكري.
اللغة الأخرى مثل (اللغة الآرامية , و اليونانية ) , المخطوطات التي حفظة نسخ من التوراة ( مخطوطات البردي , و الرق ) , أهم مخطوطات العهد القديم المكتوبة باللغة العبرية , ترجمت التوراة .
الفصل الثاني/نقد التوراة
استفتحت هذا الفصل ((ما من كتاب من الكتب الدينية كان حظه من الترجمة في العالم مساويا أو حتى مقاربا لحظ العهد القديم الذي تُرجم قديما وحديثا إلى لغات عديدة لا عد لها ولا حصر. وما من كتاب ديني أثار من الجدل مثلما أثاره هذا الكتاب منذ ظهوره أول مرة في الشرق الأدنى القديم. وليس هناك أي مؤشر يدل على أن الجدل بشأنه سيتوقف في يوم من الأيام. وأهمية العهد القديم لا تنحصر فيما هو عقدي محض. فقد كان يُمثل حتى عهد قريب مصدرا وحيدا لتاريخ شعب بأكمله، بل لديانة بأكملها. ولا يزال يقوم بهذا الدور عند أولئك الذين يُغلبون في نظرتهم إلى العهد القديم الإيمان على العقل. ويعود العهد القديم إلى مرحلة تاريخية قديمة اختلف العلماء، بشدة، في تحديدها.
وما كان للعهد القديم أن يحظى بهذا الانتشار الواسع لولا ارتباطه المبكر بالديانة المسيحية. فإذا تركنا جانبا أوجه العداوة التاريخية بين الديانتين المسيحية واليهودية، والتي لها أسبابها وانعكاساتها ومظاهرها فإن هناك وجها آخر يجمعهما، على الأقل من الجانب المسيحي، ألا وهو الكتاب المقدس. فالمسيحية آمنت بالعهد الجديد ولم تتخل عن العهد القديم، بل تبنته حتى وإن كانت نظرتها إليه لا تطابق من حيث المحتوى وعدد الأسفار العهد القديم لدى اليهود.
ومن المفارقات الجديرة بالتأمل أننا لا نتوفر على أية مخطوطة أصلية للعهد القديم. كل ما بحوزة الباحثين هو بضعة نسخ حديثة إلى حد ما. وقبل اكتشاف مخطوطات قمران كان أقدم نص عبري يعود إلى القرن العاشر الميلادي.
لهذا تُطرح كما أشار إلى ذلك أوغيست برنيس (Auguste Bernus )( ) أسئلة عديدة من قبيل ما يلي: هل وصلت نصوص العهد القديم إلينا كما كانت في الأصل أم أن النقصان، الذي هو من سمات العمل الإنساني، ترك آثارا بالغة في نقل هذه النصوص؟ومن أين جاءت هذه الكتب المشكلة للعهد القديم؟ ومن هم مؤلفوها؟ وفي أي زمان وفي أي مكان تحققت عملية التأليف؟ وما هي الغايات التي كان يرمي إليها المؤلفون وهم يكتبونها؟ وفي الأخير كيف جُمعت هذه الكتب المشكلة للعهد القديم؟ومن لدن من؟ لماذا؟
لقد ارتبط نقد العهد القديم بحقلين معرفيين مختلفين هما:
حقل معرفي يُعنى بحالة النص، ويُدرج هذا النقد ضمن علم الفيلولوجيا (La philologie) ويُطلق عليه في الغالب اسم النقد المنخفض (Basse critique)( ). وغايته إصلاح النص، لأن اقتناء الكتب القديمة كان يمر- قبل ابتكار الطباعة- عبر الاستنساخ. ولا يخفى على أحد الآن الظروف المحيطة بهذه العملية الشاقة، وذلك بدءا من الناسخ نفسه الذي يمكن أن يقع حينا في أخطاء غير مقصودة منشأها السهو أو الكسل أو الملل أو ضعف البصر أو أن يقع حينا آخر في أخطاء متعمدة ناتجة عن عدم الإخلاص في العمل أو عن النية في التحريف. ومرورا بالنسخة نفسها التي تتعرض، مع مرور الزمن، لعوامل طبيعية مثل الحرارة أو الرطوبة أو العفن أو نخر السوس أو طبيعة الحروف المدونة في المخطوطة.
نجد في البحث الأول/نقد التوراة:لمحة تاريخية , النقد المسيحي للتوراة بشرح مفصل عنه , النقد اليهودي للتوراة وتاثير الإسلام عليه ((و يبدو أن ظهور الإسلام، وحديث القرآن الكريم المتكرر عن التحريف والتبديل الذين لحقا التوراة، وأجواء المناظرات الدينية بين الملل الثلاث، كلها كانت من العوامل التي جعلت علماء اليهودية يدافعون عن صحة التوراة، ويطورون مناهج قديمة أو يبتكرون مناهج أخرى مقتفين في ذلك أثر العلماء المسلمين .
النقد عند العلماء المسلمين: ابن حزم نموذجا ((لقد انكب علماء المسلمين منذ أول عهدهم بالأقليات الدينية، ولا سيما أهل الكتاب منهم، على دراسة الأديان المخالفة للإسلام، فاهتموا كثيرا بهذا العلم، وأولوه العناية التي يستحقها، ومن ثم ظهرت إلى الوجود مجموعة من المؤلفات. وعلى الرغم من ضياع الجزء الأكبر منها إلا أن ما بقي منها هو حسب سعيد كفايتي: «دليل قاطع على الأهمية التي كانت تحظى بها مثل هذه الدراسات في الثقافة العربية القديمة »( ). ولقد أبانت هذه المؤلفات، أن العلماء المسلمين كان لهم شرف كتابة أول تاريخ للأديان في الفكر الإنساني كله، وقبل أوربا بأكثر من عشرة قرون، معتمدين في ذلك على مختلف المناهج العلمية، نذكر منها :
1_ منهج التأريخ والوصف: والذي يتخذ من تأريخه للأديان ووصفه لهاأساسا له و قد تبناه «أبي عيسى الوراق (من مفكري القرن الثالث الهجري) الذي كتب في الجدل كتابه (الرد على فرق النصارى الثلاث) وكتب في الوصف والتأريخ كتابه ( مقالات الناس واختلافهم.
2- منهج التحليل والمقارنة: الذي يعتمد على المقارنة بين أكثر من ديانتين، حيث يلجأ العالم إلى تحليل ودراسة أسفار هذه الديانات ومقارنتها ومن ذلك كتاب أبي الحسن العامري (ت381 ه -992م ) المسمى(كتاب الإعلام بمناقب الإسلام.
3- منهج الحوار والجدال: الذي جاء على شكل مناظرات حية بين علماء المسلمين والعلماء الذين دخلوا الإسلام، وأصحاب الملل الأخرى، كالسموأل بن يحيى المغربي(ت570 ه ) في كتابه (غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود)، والذي كان يهوديا وأسلم فدافع عن الإسلام ورد على اليهود فيما يدعونه من بطلان النسخ، وكذلك تكذيبهم بنبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، من منطلق معرفته باليهودية.( ) وقد رد عليه ابن كمونة اليهودي في كتابه( تنقيح الأبحاث للملل الثلاث)( ) وقد سلك المصنف في هذا «الكتاب طريق التعصب لليهود والتعصب على النصارى حتى أنه لقلة إنصافه حرف كلام الإنجيل الذي نقله في هذا الكتاب وزاد عليه تارة ونقص منه تارة أخرى كل ذلك مبالغة في التشنيع على النصارى وسوق كلامهم إلى الباطل بالحيل السوفسطائية»( )وقد كان في مناقشته لهذه الأديان الثلاث متحيزا لليهودية ومنتصرا لها، فقد جعل نوع مناقشته للقضايا تختلف فعند حديثه عن أدلة المسلمين والمسيحيين يسوق أدلة تافهة ويرد عليها بأقوى منها، أما معتقدات اليهود فيفصل فيها ويورد عليها اعتراضات خفيفة، متظاهرا بعدم الانحياز.
4- المنهج التحليلي النقدي: وهو ما برع فيه العلماء المسلمون حيث وضعوا له أصولا وقواعد منهجية مضبوطة.
ويُعتبر كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي(384-ت456) من أهم الدراسات التي اتخذت من هذا المنهج منطلقا لها ، من هنا يتضح لنا أن العلماء المسلمون كان لهم قصب السبق فما يتعلق بعلم مقارنة الأديان.( ) ، فقد سبقوا في ذلك العلماء الغربيين خاصة في العصور الوسطى مع ابن حزم الأندلسي (994م/1064م) الذي يُعد، في واقع الأمر، المؤسس الحقيقي لعلم نقد الكتاب المقدس، وإن كان الرجل لم يأخذ حتى الآن حقه من لدن الدارسين الغربيين الذين تنكروا له، ولم يُفصحوا بأنهم أخذوا عنه هذا العلم موجهين في المقابل أنظارهم فقط نحو أبرهام ابن عزرا (1090م/1164م) العالم اليهودي.
وقد كان باروخ سبينوزا أول من أقر صراحة في كتابه( رسالة في اللاهوت والسياسة) أنه ليس أول من تنبه إلى أن موسى ليس هو من كتب التوراة خاصة الأسفار الخمسة، ولكن سبقه إلى ذلك أبرهام بن عزرا حيث يقول: «ولهذا السبب فإن ابن عزرا – وهو رجل كان فكره حرًّا إلى حدٍّ ما، ولم يكن علمُه يُستهان به، وهو أولُ من تنبَّه إلى هذا الخطأ فيما أعلم- لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه صراحة واكتفى بالإشارة إليه بألفاظ مُبْهَمَةٍ. أما أنا فلن أخشى توضيحَها وإظهارَ الحقّ ناصعاً. هذه هي أقوالُ “ابن عزرا” في شرحه على “التثنية”: فيما وراء نهر الأردن…الخ لو كنت تعرف سر الاثني عشر.. كتب موسى شريعته أيضا.. وكان الكنعاني على الأرض.. سيوحي به على جبل الله.. هاهو ذا سريره سرير من حديد حينئذ، تعرف الحقيقة. بهذه الكلمات القليلة يبين ويثبت في الوقت ذاته أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل وأن موسى كتب سفرا مختلفا.
لقد أراد ابن عزرا بقوله هذا أن موسى لم يُدون تلك الفقرات وهي إما أن تكون قد أضيفت بعده أو كتبها كاتب معاصر لموسى. والواضح من سنة ميلاد أبراهام بن عزرا أنه ولد بعد ابن حزم الأندلسي بخمس وعشرين سنة، وهي على وجه التأكيد، مدة قريبة للفترة التي عاش فيها ابن حزم الذي ذاع صيته في الأندلس في شتى المجالات ومختلف العلوم. وتجاوز تأثيره معاصريه ليشمل حتى الأجيال التي أتت بعده. ولا يستبعد أحمد شحلان أن يكون أبراهام ابن عزرا في نقده للتوراة قد تأثر بابن حزم الأندلسي، لأنه سلك منهجه فانتقد «النصوص صراحة ولم يلجأ إلى تأويلها. وفي هذا كان ابن حزم أستاذا لأبراهام بن عزره ولسبينوزا، لأن نقد هذين الأخيرين لم يتخذ التأويل منهجا لحل مبهمات العهد العتيق، ولكنه أخد ينظر في تناقضاته المختلفة، ويناقش عدم توافقه مع صدق الواقع في الأحداث والتواريخ ومستوى اللغة.
ومن هنا يتضح لنا أن ابن عزرا قد تأثر بالثقافة العربية، وبما وصله من مناظرات دينية بين المسلمين وأهل الكتاب، خاصة كتابي ابن حزم الأندلسي(الفصل في الملل والأهواء والنحل) ورسالته في الرد على ابن النغريلة اليهودي،وهذه الرسالة هي عبارة عن مناظرة دارت بين ابن حزم الأندلسي وصموئيل بن النغريلة،والتي أفحم فيها ابن حزم ابن النغريلة، وبين له الكثير من متناقضات التوراة.
نخلص مما سبق إلى أن ابن حزم هو المؤسس الحقيقي لعلم مقارنة الأديان التوحيدية بصفة عامة، ونقد التوراة بصفة خاصة .
ثم تكلمت عن ابن حزم و حياته و منهجه في نقد التوراة وذكرت كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) الذي كان فاتحة علم مقارنة الأديان ونقد الكتاب المقدس بدون منازع (( فالرجل حقيقة ودون مبالغة كان سابقا لعصره في هذا المجال، فقد التزم بقواعد الجدل والحجاج الصارمة؛ إذ يعرض حجج الخصوم عرضا وافيا ومجردا، ثم يرد عليها وينقضها واحدة تلوى الأخرى، اعتمادا على العقل بالنسبة للطوائف التي لا تدين بالإسلام؛ وعلى العقل والنقل بالنسبة للطوائف التي تدين به. مع التزامه الوضوح وعدم الغموض وقد أشار في مقدمة كتابه إلى منهجه في النقد والطريقة التي سيتبعها في الجدل حيث يقول: « الحمد لله كثيرا، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه بكرة وأصيلا، وسلم تسليما.
أما بعد: فإن كثيرا من الناس كتبوا في افتراق الناس في ديانتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدا، فبعض أطال وأسهب، وأكثر وهجر، واستعمل الأغاليط والشغب، فكان ذلك شاغلا عن الفهم، وقاطعا دون العلم، وبعض حذف وقصر، وقلل واختصر، وأضرب عن كثير من قوي معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير مصنف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالما لخصمه في أن لم يوفه حق اعتراضه، وباخسا حق من قرأ كتابه؛ إذ لم يفند به غيره. وكلهم –إلا تحلة القسم- عقد كلامه تعقيدا يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم، وحلق على المعاني من بعد حتى صار ينسى آخر كلامه أوله، وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم، فكان عملا منهم غير محمود في عاجله وآجله.
البحث الثاني/نقد التوراة في الغرب الأوروبي , النظريات في النقد الأوربي للتوراة .
الخاتمة
لقد لخصت الدكتورة/كريمة نور عيساوي في الخاتمة ما أرادت الوصول له , عبر نقاط أساسية . جعلتها خلاصة هذه البحوث , والاساس العلمي الذي استندت عليه .