يُعتبر العنف ظاهرة إنسانية. ومن المثير حقا أن يُفتتح “العهد القديم” بجريمة قتل هي الأولى في تاريخ البشرية، ولم يكن المنفذ سوى قايين / قابيل الذي دفعه إحساسه بعدم المساواة إلى قتل أخيه هابيل. جاء في سفر التكوين: وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ، وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ سِمَانِهَا. فَنَظَرَ الرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ. فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: «لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا». وَكَلَّمَ قَايِينُ هَابِيلَ أَخَاهُ. وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ. وتذهب أغلب التحاليل إلى ربط العنف بالحضارة والتمدن. «فَخَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ، وَسَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ شَرْقِيَّ عَدْنٍ. وَعَرَفَ قَايِينُ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَنُوكَ. وَكَانَ يَبْنِي مَدِينَةً، فَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ كَاسْمِ ابْنِهِ حَنُوكَ». سفر التكوين (4: 3-17 ) وتتكرر بعد ذلك في “العهد القديم” مشاهد العنف الذي يبلغ درجة الدمار الشامل مثل ما هو الأمر في خراب سدوم وعمورة، وهي مجموعة من القرى التي خسفها الله بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد وفق ما جاء في النصوص الدينية.
إن تاريخ البشر هو تاريخ للعنف الذي كان يُرتكب بتسميات مختلفة. غير أن ما ارتكب من عنف في الغرب، وهو الأحدث والأكثر إيلاما بسبب نضج فكر حقوق الإنسان، ضد الإنسان غير الأوروبي تجاوز كل الحدود المعقولة، إذا ما كانت للعنف حدود معقولة أو غير معقولة، وكثيرا ما كان يبلغ العنف في أمثلة تاريخية مشهورة قديمة أو حديثة درجة الإبادة أو الاستئصال. ويكفي أن نرجع قليلا إلى الوراء لنكشف عن الوجه المتوحش للحضارة الغربية متمثلا في النازية التي أعطت للقتل بعدا عرقيا، أو الاستعمار الغربي الذي لم يتورع عن سحق الشعوب المحتلة، والادعاء بأنه يقوم بوظيفة حضارية لفائدة هذه الشعوب المغلوبة على أمرها. أما إذا ما توغلنا أكثر فستصدمنا صور الإبادة التي حدثت في كل من أمريكا وأستراليا، وإحلال شعب وافد ومهاجر محل شعب أصيل.
هذه الصور وغيرها أصبحت جزءا من الماضي، صفحة من التاريخ المنسي الذي تم طيها دون أي شعور بالذنب أو إحساس بالخطيئة، وذلك على الرغم من أن آثار البعض منها لا تزال موشومة في الذاكرة. ويبدو أن قابليتها للإمحاء تكمن في أنها تنتمي إلى عصر ما قبل ميلاد وتطور تكنولوجيا الإعلام والتواصل، هذه الآلة الأخطبوطية المدمرة التي تصنع الرأي العام، وتوجهه لفائدة جهات معينة. وربما من سوء حظ المسلمين في العقود الأخيرة أن تنامي العنف باسم الإسلام، واتساع رقعة انتشاره تزامن مع بلوغ هذه التكنولوجيا أقصى درجات التطور. وهو الأمر الذي أفضى إلى خلق أو اختلاق صورة نمطية عن الإسلام من الصعب تغييرها أو التقليص من وطأتها تتلخص بالدرجة الأولى في اقترانه بالعنف والإرهاب والقتل والدم والوحشية.
و لابد من التأكيد على أن هذه الصورة التي تشكلت عن الإسلام ليست وليدة عشية وضحاها، بل هي، إذا ما كنا نتحرى الدقة، نتاج طبيعي لصيرورة تاريخية نضجت على نار هادئة، تجد بعض مسوغاتها في ذلك العداء الموروث والمتبادل المعلن حينا والخفي أحيانا أخرى ما بين الغرب من جهة والإسلام من جهة أخرى. صراع كان في أصله دينيا ما بين المسيحية والإسلام. وما الحروب الصليبية، وحرب الاسترداد إلا حلقة ضمن هذا المسار الطويل من سوء الفهم والكراهية. وحتى حينما وضعت الحرب أوزارها اشتعلت حرب من نوع آخر حطبها هو الأفكار، بدأت في مجملها صغيرة تقتات من بعض المعلومات المتناثرة وغير المنظمة عن الإسلام، وما لبثت أن تحولت في ظروف تاريخية محددة إلى عمل مؤسسي أي إلى ما يُسمى بالاستشراق خاصة مع مقدم القرن التاسع عشر.
وليس سرا أن يُوظف جزء من الاستشراق في خدمة الاستعمار. وفي ظل هذه الظروف الجديدة ستتوارى إلى الخلف ثنائية مسيحية / إسلام ليتم التركيز على ثنائية متحضر / متخلف المحشوة ببعد عرقي. وسنجد أنفسنا أمام تقابل صارخ ما بين العقل السامي والعقل الآري أو الهندوأوروبي. وكان الهدف الحقيقي من تكريس هذا النوع من التقابل إعطاء بعد حضاري للاستعمار. إن “الغرب المسكين”، وهو يحتل دول شمال أفريقيا أو غيرها من الدول المستضعفة، يؤدي في حقيقة الأمر رسالة حضارية. إن الغربيين هم أشبه برسل بعثهم الله للقيام بهذه المهمة النبيلة.
ليس مهما التساؤل عما إذا كانوا هم أنفسهم قد صدقوا هذه الكذبة، فكثيرا ما نكذب عن سبق وإصرار وننتهي ليس فقط بتصديق الكذبة، وإنما بإقناع الآخرين بأنها صحيحة لا غبار عليها. الأهم من كل ذلك يتمثل في إنشاء خطاب “علمي” سيكون له دور حاسم في وضع رتوشات جديدة على صورة الإسلام في الغرب. ولم يكن الخطاب الاستشراقي وحده المسؤول عن ذلك فقد تقاسم الأدوار الفنانون التشكيليون والمصورون والروائيون والسينمائيون. وأصبحت هذه الصورة نفسها تتكرر في اللوحة التشكيلية والبطاقة البريدية والقصة والفيلم. فهم جميعا ينهلون المادة الخام من منبع مشترك. و لا يكون الاختلاف بينهم، إن وُجد، إلا جزئيا وفي بعض التفاصيل.
سيكون ضروريا العودة إلى هذا التراث الذي تراكم على مدار قرون طوال، ومعرفة الثابت والمتغير في الصورة التي صنعها الغرب عن الإسلام، ومحاولة تفسير هذه التحولات، ووضعها في سياقها التاريخي. ومقارنتها بعد ذلك بصورتنا نحن عن الغرب. لا حاجة إلى التذكير بأن تجربة الاستعمار، والمقاومة التي خاضها المسلمون ضد المحتل خلقت لديهم إحساسا قد لا يكون صادقا بأن المسلم عنيف بطبعه، ويميل بالفطرة إلى القتل. غي
غير أن هذا الإحساس ظل في حالة كمون، ولم يُكتب له الظهور مجددا إلا مع ظهور الإرهاب في ثوبه الإسلامي. فالإرهاب ليس صناعة إسلامية. فكلنا يعلم أن اليسار المتطرف كان في مرحلة ما من التاريخ الحديث مساهما أساسيا في خلق وتقديس ثقافة الموت. لكن تشاء الأقدار أن يجُب الإرهاب في ثوبه الإسلامي ما قبله من إرهاب، وتشاء الصُدف أن يلتصق الإرهاب بالإسلام إلى درجة يصعب فيها أن نفك الارتباط بينهما، ولم تعد الإسلاموفوبيا شأنا غربيا، بل أصبحنا نحن نشاركهم هذا الخوف لاسيما بعد أن اكتوينا مرات من نيران الإرهاب. ويبدو أن هذا الاقتران ما كان ليتحقق بالشكل الذي هو عليه الآن لولا تزامنه بالتطور الهائل وغير المسبوق لتكنولوجيا الإعلام والتواصل. فما حدث في الماضي من إرهاب كان أثره على المتلقي محدودا، وكان نخبويا
أما الآن فتعددت وسائل نقل الحدث. ومن هنا لم يكن غريبا أن يأخذ الإرهاب في ثوبه الإسلامي طابعا كونيا. والأمر الخطير أن صورة الإسلام تزعزعت كثيرا بسبب توالي أحداث العنف، ولم يعد المستقبل لها الرجل الأوروبي فحسب، وإنما كل شخص في الكرة الأرضية. ويجب أن نستحضر في الأذهان أن منفذي مثل هذه العمليات انخرطوا في حرب من نوع جديد. حرب نفسية. واستثمروا على نطاق واسع تكنولوجيا الإعلام الجديد لينقلوا على المباشر عمليات الذبح الجماعي والتقتيل وما إلى ذلك من صور بشعة تعافها النفس البشرية، وتأباها الفطرة التي جُبل عليها ألإنسان.
ما الذي حدث؟ وكيف حدث كل هذا؟ من الممكن في حالة الدفاع عن الذات أمام الخصوم القول بأن ما يحدث من عنف باسم الإسلام هو تعبير عن ذوات مريضة. وقد نشعر بنوع من الارتياح إذا ما أفلحنا في إقناع الأخر. غير أن ما يُقوض خطابنا، ويُفرغه من محتواه هو ذلك العنف الرمزي القائم على الأساطير، والذي وجد الطريق مذللا للانتشار كالنار في الهشيم فيما يُعرف بمواقع التواصل الاجتماعي.
ومن ذلك أننا نجد مثلا من يزعم أن المركز الذي دُمر يوم 11 سبتمبر 2001 بنيويورك يقع في شارع جرف هار وهو الاسم نفسه المذكور في سورة التوبة (الآية 108-109): « أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ».
والظاهر أن هذه المزاعم لقيت آذانا صاغية بحيث أنها صيغت على شكل سؤال وُجه إلى أحد العلماء فكان رده على الشكل الآتي:
الآتي:
1ـ المبنى يقع في منطقة في نيويورك تسمى (جرف هار).
والآية الكريمة في سورة التوبة رقم (109) فيها هذه اللفظة.
2ـ وقت انهيار المبنى العالمي للتجارة هو 11 / 9 / 2001.
وسورة التوبة تأتي في الجزء (11) من القرآن وهو يوم الانهيار.
3ـ سورة التوبة رقم (9) في القرآن وهو (شهر) الانهيار.
4ـ عدد الحروف من بداية سورة التوبة وحتى الآية (109) هو (2001 حرف) وهو (تاريخ سنة) الانهيار.
5ـ رقم الآية في القرآن هو (109) وهو عدد (أدوار البرج).
فقالوا: هذا التوافق عجيب وفيه إعجاز علمي.
وبالنظر والتأمل اتضح كذب هذه المعلومات المبني عليها هذه الفكرة المسماة بأن هنالك إعجازا علميا لأسباب عديدة:
أولاً: ما علاقة هذه الآية التي تتحدث عن المسجد الضرار الذي أسسه المنافقون على غير تقوى الله، وتشير إلى أن كل إنسان يبني أعماله في الدنيا على غير تقوى الله فإن هذه الأعمال ستنهار وتهوي به في نار جهنم يوم القيامة. فما علاقة انهيار بناء يوجد مثله آلاف الأبنية بهذه الآية؟
ثانياً: أن عدد كلمات سورة التوبة ليس (2001) وعدد الكلمات من بداية السورة حتى الآية المذكورة ليس (2001).
وهذا العدد ليس له وجود في السورة أصلاً.
ثالثاً: هذا الإعجاز المزعوم يعتمد على الرقم (109) وأنه هو عدد الطوابق للمبنى المنهار الموافق للآية (109) من سورة التوبة مع أن عدد طوابق المبنى هو (110)، وليس (109) كما زعموا.
رابعاً: لا يوجد في أمريكا في تلك المنطقة التي حدث فيها هذا الحادث شارع اسمه (جرف هار).
خامساً: يتضح مما سبق أن المعلومات التي اعتمد عليها بأنها كاذبة وخاطئة ولا يمكن الاعتماد على ما فيها.
سادساً: من أين أتى هذا الشخص بهذا الإعجاز وهل هو متخصص في هذا العلم وعلى أي قاعدة بني عليها هذا التأويل لو صح سنجد أن هذا الكلام ليس من متخصص بل الراجح أنه من واضعي الإنترنت ممن يحبون الغرائب بمثل هذه الأخبار وقد يكون ممن له قصد سيئ لتشويه الإسلام أو الإعجاز أو كليهما.
والتفسير الصحيح لهذه الآية ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[التوبة:109] هو ما أشار إليه المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس: (﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ بني أساسه ﴿عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ﴾ على طاعة الله وذكره ﴿وَرِضْوَانٍ﴾ بنوا إرادة رضوان ربهم وهو مسجد قباء ﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ بني أساسه وهو مسجد الشقاق ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ على طرف هوي وليس له أصل ﴿هَارٍ﴾ غار ﴿فَانْهَارَ بِهِ﴾ فغار به يعني بانيه ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لا يغفر للمنافقين ولا ينجيهم).
جملة القول إن مقاومة العنف، وكل أشكال الإقصاء ستبقى، على الرغم من الجهود المبذولة على مستوى النخبة، غير مثمرة وغير ناجعة ما لم تقترن باستراتيجية لمواجهة الخطاب المستشري في مواقع التواصل الاجتماعي التي تحرض على الإقصاء، وتغذي نزعة كراهية الآخر، وتبحث عن شرعنة للعنف من داخل النص القرآني. ومن هنا يصح القول بأن العنف المادي ما هو إلا انعكاس لعنف رمزي يقتات من فكر التكفير، وتعطيل الفكر.
*باحثة في تاريخ الأديان
الإسلام والعنف والعولمة وصناعة الصورة النمطية/ د.كريمة نور عيساوي
5
المقالة السابقة