لن يستطيع الرئيس دونالد ترامب كسب المعركة في مجلس الأمن. كان يرغب في حصر «القمة» التي دعا إليها غداً، بمناقشة الشأن الإيراني. لكن إدارته ارتأت توسيع المناقشات لتشمل انتشار الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية والصواريخ الباليستية. وسيقدم في الاجتماع «ورقة مفاهيم» يدعو فيها أعضاء المجلس إلى تنفيذ القرارات الأممية الخاصة بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وأنظمة إطلاقها. وإلى تحديد السبل لفرض احترام هذه القرارات ومعاقبة المخالفين. ويحض المجلس أيضاً على استخدام «الأدوات المتوافرة لديه بما فيها العقوبات والضغط السياسي والديبلوماسية لتزويد الاتفاقات والمعاهدات والأعراف الدولية المرعية بأنياب ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية وانتشارها». روسيا تحفظت بداية عن العنوان الأصلي والأساسي لهذا الاجتماع. دعت إلى البحث في تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. أي أنها ليست مستعدة لمجاراة الإدارة الأميركية في سياساتها حيال الجمهورية الإسلامية. ولن يكون موقف الصين مختلفاً. حتى الأوروبيون الذين ما زالوا يتمسكون بالاتفاق يعارضون فرض العقوبات مجدداً على طهران، وإن مالوا إلى مطالبتها بفتح حوار جديد يفضي إلى وقف برنامجها الصاروخي والكف عن سياسة التدخل في شؤون جيرانها.
مجلس الأمن معني بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وكان أجمع قبل سنوات على حزم من العقوبات على إيران سعت إليها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ودفعت طهران إلى مفاوضات مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا انتهت بتوقيع الاتفاق النووي قبل صيف 2015. لكن مثل هذا التعاون يبدو متعثراً اليوم. الرئيس الأميركي السابق اعتمد استراتيجية واضحة في دعوته المجتمع الدولي إلى المشاركة في إدارة شؤون العالم. من الواضح أن إدارة الرئيس ترامب تراهن على أن الظروف التي دفعت الجمهورية الإسلامية إلى طاولة الحوار عام 2013 قد تدفعها مجدداً إلى حوار مماثل. تراهن على أن سيف الحصار الاقتصادي والعقوبات سترغمها على ذلك. ولا شك في أن الظروف الحالية التي تمر بها الجمهورية أكثر خطورة من تلك التي سبقت إبرام الاتفاق النووي. فالأوضاع الداخلية والاجتماعية المتدهورة تدفع الناس إلى رفع وتيرة احتجاجاتهم في مدن كثيرة. كما أن الصراع المفتوح بينها وبين الولايات المتحدة يعمق الخلافات بين التيارين المحافظ والمعتدل الذي يحاول مجاراة المتشددين للحفاظ على مواقعه. كما أن الصراعات العرقية زادت حدة، مستفيدة من حراك الشارع وسياسة التشدد واعتبارات أخرى. ولم يكن الهجوم على عرض عسكري يوم السبت الماضي في الأحواز الأول من نوعه. كما أن القصف الصاروخي الذي استهدف مقر الحزب الديموقراطي الكردي الإيراني في كردستان العراق جاء «استباقياً» كما يقول الإيرانيون. علماً أن الأحزاب الكردية نشطت في الفترة الأخيرة لتوحيد صفوفها وإن لم تعلن صراحة تخليها عن الهدنة العسكرية التي كانت سارية في السابق. واعتبر «الحرس الثوري» أن هذه العملية رسالة واضحة إلى الأعداء». مثلما عد المسؤولون الآخرون أن الهجوم في الأحواز كانت وراءه أميركا وإسرائيل ودول أخرى. وهدد الرئيس حسن روحاني برد ساحق. واتهم دولاً خليجية بدعم المجموعة العربية التي تبنت العملية. كما اتهم الولايات المتحدة بأنها تريد إثارة انعدام الأمن في بلاده.
هذه الظروف الضاغطة تزيد إيران تشدداً. هذا ما يبدو حتى الآن في الأقل. فما صح أيام أوباما قد لا يصح أيام ترامب. وهي ترفض اليوم دعوات واشنطن إلى اللقاء والحوار، على غرار كوريا الشمالية. وقد كرر المبعوث الأميركي الخاص بالشأن الإيراني برايان هوك قبل أيام أن بلاده تسعى إلى التفاوض مع الجمهورية الإسلامية. وهي دعوة قدمها وزير الخارجية مايك بومبيو في أيار (مايو) الماضي مصحوبة بدزينة من الشروط لبدء التفاوض. إلا أن الرئيس ترامب أبدى في نهاية تموز (يوليو) استعداده للقاء نظيره الإيراني «بلا شروط مسبقة». وكرر مطلع آب (أغسطس) يوم بدء الفصل الأول من العقوبات على إيران، أنه لا يزال منفتحاً للتوصل إلى «صفقة أكثر شمولية من شأنها أن تغطي طيفاً واسعاً من إجراءات النظام الضارة، بما في ذلك برنامجه الصاروخي ودعم الإرهاب». لكن طهران لا تبدي عجلة. تنتظر نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وهو الموعد ذاته الذي تبدأ به الحزمة الثانية من العقوبات التي تستهدف قطاع النفط الإيراني. ربما ينتظر المتشددون ضمان انحياز المعتدلين إلى موقفهم نهائياً أو تحقيق الغلبة عليهم في تشديد الحملة على الرئيس روحاني وحكومته، تمهيداً لإزاحتهم واستعادة الإمساك بالقرار كاملاً. علماً أن روحاني كرر قبل أيام أن بلاده لن تتخلى عن أسلحتها الدفاعية «بما في ذلك صواريخها التي تجعل أميركا غاضبة جداً».
إلا أن ما تراهن عليه طهران أكثر هو غياب التعاون بين الدول الكبرى، وكثير من هذه يقف إلى جانبها في الصراع القائم. موسكو ردت على واشنطن بتأكيد «الحق السيادي» لإيران في تطوير قدراتها الصاروخية. ورأت أن ما تطالب به إدارة ترامب يمكن معالجته «بعيداً من الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية». ومثلها بكين ترفض سياسة العقوبات وليست مستعدة للتخلي عن شراكتها التجارية مع طهران ووقف الاستثمارات التي تدعم مشروعها لطريق الحرير. الأرجح أن ترامب لا يتوقع تعاوناً من هاتين الدولتين الكبريين. فقد فرضت إدارته قبل أيام عقوبات على وحدات في الجيش الصيني، وعلى مجموعة من الأشخاص والمؤسسات الروسية. وجاءت هذه الحزمة رداً على شراء الصين طائرات «سوخوي 35» وصواريخ «إس 400» من روسيا. وأُقرت هذه بموجب قانون «كاتسا» (مواجهة أعداء أميركا بالعقوبات) خطوة في سعي واشنطن إلى تقليص مبيعات روسيا من الأسلحة التي وفرت لها العام الماضي نحو 15 مليار دولار. وقد نددت بكين بالقرار ودعت إلى رفع العقوبات عن جيشها. وعدت الخطوة «انتهاكاً صارخاً لقوانين العلاقات الدولية». وكذلك فعلت موسكو التي حذرت واشنطن من اللعب بالنار. واعتبرت أن العقوبات «تزيد حدة التوتر في العلاقات الثنائية وتزعزع الاستقرار العالمي».
لا شك في أن المسؤولين الأميركيين يدركون أن موسكو لعبت بالورقة الإيرانية طويلاً قبل الاتفاق النووي وبعده، تبعاً لنتائج الحوار بينها وبين واشنطن. وهي اليوم تواصل استغلال هذه الورقة كلما تعثر فتح كوة في جدار العلاقة مع الولايات المتحدة. تماماً كما فعلت بكين بالورقة الكورية الشمالية. فهي تحايلت على العقوبات الدولية ووفرت لبيونغ يانغ كل ما تحتاج إليه، إلى أن قررت تسهيل الحوار بينها وبين واشنطن لجملة من الاعتبارات بينها الخوف من تداعيات انهيار محتمل لهذه الدولة المنغلقة عن العالم، وقطع الطريق على العسكرة الأميركية لمنطقة حيوية تعدها بكين جزءاً من فضائها الأمني… فضلاً عن أسباب أخرى باتت معروفة. فهل كان من الأجدى أن يهادن الرئيس ترامب روسيا والصين لتحصين موقفه حيال الجمهورية الإسلامية، أم إن اعتماده سيف العقوبات قد يشكل حافزاً لهما على التعاون؟ هذا إذا كان يعتقد فعلاً أن بلاده لن تكون قادرة وحدها على مواجهة التحديات من دون تعاون دولي!
يبقى السؤال هل يريد الرئيس ترامب المتمسك بشعار «أميركا أولاً» أن يحمل زملاءه في مجلس الأمن مسؤولية مآل الصراع بينه وبين طهران؟ وهل هناك مصلحة للدول الكبرى في أن ينزلق الشرق الأوسط إلى مواجهات واسعة؟ لا أحد يرغب في مواجهة عسكرية. لكن التوتر في الخليج، فضلاً عن أماكن أخرى، من العراق إلى اليمن وسورية، يزداد تصاعداً. وهو مرشح للتفاقم بعد عملية الأحواز والاتهامات التي وزعها المسؤولون الإيرانيون شمالاً ويميناً، والتهديدات التي أطلقوها. وقد جددت الجمهورية الإسلامية مناوراتها في مياه الخليج. ولا تنفك تهدد بإقفال مضيق هرمز لوقف صادرات النفط في هذا الممر إذا فعلت العقوبات فعلها في وقف صادراتها في تشرين الثاني المقبل. بينما تهدد الولايات المتحدة بالرد على أي تهديد لمصالحها ومصالح حلفائها. وتعتبر المضيق ممراً دولياً لن تسمح بإقفاله. وهي تستعد لكل الاحتمالات. وعقد اجتماع أخيراً في الكويت لهذه الغاية، حضره رؤساء الأركان في دول مجلس التعاون ومصر والأردن وقائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جوزف فوتيل. وحرص الأخير على الحديث عن تهديدين في المنطقة هما «نشاطات إيران المزعزعة الاستقرار والمنظمات الإرهابية المتطرفة». وجرى البحث في تفعيل التنسيق والتعاون ووضع خطط لمواجهة أي ظروف طارئة.
قد يكون من المبالغة تشبيه «القمة» في مجلس الأمن برئاسة ترامب بالجلسات التي عقدها المسؤولون في إدارة الرئيس جورج بوش الابن تمهيداً لذهاب أميركا مع بريطانيا إلى غزو العراق. ولكن، هل تنجح مساعي واشنطن ومبادراتها الديبلوماسية في تحاشي المواجهة في ممارسة؟ وهل تثمر التهديدات المتبادلة ودفع الأوضاع إلى شفير الهاوية في إطلاق الحوار؟ أم إن الأوان قد فات على مثل هذا الاحتمال، ولا بد من إشعال الحرائق، تبعاً لنظرية هنري كيسينجر، من أجل دفع الجميع إلى البحث عن حلول وتسويات على صفيح ساخن؟