أن تُغلق واشنطن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما قطعت مساعداتها عن السلطة الفلسطينية، لأن الأخيرة أوقفت الاتصالات بـ«الوسيط الأميركي»، فهذا إجراءٌ بين جهتَين حكوميّتَين، وله مبررات سياسية، بمعزل عمّا إذا كانت مقبولة أم لا، وعمّا إذا كان «الوسيط» وسيطاً أو طرفاً معادياً كما كان دائماً.
لكن الإجراءين ارتبطا أساساً بـ«اتفاق أوسلو» الذي وقّع قبل ربع قرن في حديقة البيت الأبيض، ولم يكونا مبادرتَين مجانيتَين، وقد تضافرت الجهود الأميركية والإسرائيلية لاحقاً لتخريب هذا الاتفاق.
وأن تحجب واشنطن التمويل عن وكالة «أونروا» التي قدّمت وتقدّم خدمات مهمة في التعليم والصحة والتأهيل المهني لشعب لم تمكّنه سلطة الاحتلال ولا يمكّنه المجتمع الدولي من بناء اقتصاده وموارده وإقامة مؤسساته، بما يتيح له الاعتماد على نفسه.
فهذا إجراء أقلّ ما يمكن أن يُوصف به أنه عدواني يتعمّد إغراق الأجيال الفلسطينية في الجهل والأمراض والبطالة، من دون نسيان التداعيات الاجتماعية التي يحذّر منها الجميع، وأهمها العنف والتطرّف.
أما أن توقف واشنطن دعمها لبعض المستشفيات الفلسطينية، فهذا يتجاوز العدوانية ويمكن توقّع ما هو أسوأ منه، إذ يعني أن الدولة العظمى باتت تعتمد نهجاً انتقامياً بدائياً بلا ضوابط سياسية أو أخلاقية، خصوصاً إنه إجراء يُقصد به إيذاء المدنيين، ولا يختلف بدوافعه وأهدافه ونتائجه عن القصف الروسي في سوريا، حين يركّز على الأحياء السكنية، والمستوصفات، والمدارس، والمخابز، والأسواق.
في سياق القرارات العشوائية والمتهوّرة التي تقدم عليها إدارة دونالد ترمب مع الحلفاء والأصدقاء والخصوم والأعداء، لم تعد حملتها على الفلسطينيين شعباً وسلطة محلّ استغراب دولي، فالعقوبات والضرائب والمعاهدات المجمّدة جعلت العالم يترقّب الأسوأ، فلا سقف، أو بالأحرى لا قاعَ لهذه السياسات، حتى إنه يصعب تقدير نتائجها المباشرة أو بعيدة المدى.
وما يشغل المراجع الدولية بالنسبة إلى الشأن الفلسطيني قلقٌ في خمسة اتجاهات:
أولاً: إن خطوات إدارة ترمب منسّقة مع برامج حكومة إسرائيلية متطرّفة تواصل تغيير الوقائع على الأرض، ولم تتردّد أخيراً في «شرعنة» نظامها العنصري.
ثانياً: إن الولايات المتحدة وإسرائيل صادرتا ملف الصراع مع الفلسطينيين، وإن واشنطن أكدت عملياً عدم أهليتها للتوسط من أجل السلام.
ثالثاً: إن الانشغال بالصراعات القائمة في سوريا واليمن والعراق غيّر الأولويات في المنطقة وأقام الواجهة الحاجبة للتطوّرات الخطيرة الحاصلة في فلسطين.
رابعاً: إن المجتمع الدولي وجد نفسه عاجزاً تماماً عن التدخّل لتصحيح مسار ما يسمّى «عملية السلام».
خامساً: إن الدول والقوى العربية موزّعة بين محاباة الولايات المتحدة، والخوف منها، أو معاداتها، ولا تبدو قادرة على توحيد جهودها لدعم الفلسطينيين على تخطّي هذه المرحلة العصيبة من تاريخ قضيتهم.
لم يسبق أن كُشفت الأوراق على هذا النحو، من تغوّل أميركي وإسرائيلي غير مسبوق، وعجز دولي، وضياع عربي، ووقوع فلسطيني في أفخاخ «السلام» الخادع والمقطوع، كذلك أفخاخ الانقسام (إذ بات من «ثوابت» أي حلّ نهائي تريد «صفقة القرن» طرحه).
لكن أي تغيير جوهري يُدخله أي طرف على المعادلة الراهنة يمكن أن ينعكس على الأطراف الأخرى. إذا استندت أميركا إلى قبول عربي معلن أو صامت لتطرح «صفقة القرن»، أو إذا نجح الفلسطينيون في إجراء مصالحة دائمة تعيد إحياء مشروعهم الوطني.
المجتمع الدولي سيتعامل مع «الأمر الواقع»، لكنه يفضّل مبدئياً الحلول التي تحترم القوانين الدولية والحقوق الإنسانية.