لم يعد مهما مصدر رقصة التحدي هذه،ولا موسيقاها ولا تاريخها ولا أي تفاصيل تتعلق بها، فقد استفاضت المنابر في الشرح والتفصيل،منقسمين بين مؤيد ومعارض ومهاجم، خاصة أنها أثارت حالة من الجنون الجماعي،وسيطرت على عقول الكبار والصغار،وغزت عالم السوشيل ميديا،حتى باتت عدوى التحدي برقصة وضعت لنفسها قانونا يخالف قواعد الحماية الذاتية،ويعرض الراقص لحوادث خاصة أن من شروطها ان ينزل المتحدي من سيارته ويتركها وهي تسير ويرقص بقربها،تبدو فكرة الرقصة مثيرة لفضول المراهقين أولئك الذين تؤثر فيهم حركة الأدرينالين الثائر في أجسادهم،ولكن ما نتابعه منذ فترة على كل مواقع التواصل الاجتماعي ليس مقبولا في رصد الوعي الجماعي وطريقة تفاعله مع مثل هذه الظواهر،التي هي في ظاهرها مجرد تسلية ولكن في مضمونها مؤشرات نفسية وأخلاقية ومعايير اجتماعية تتعرض لعملية تهكير فكري،تماما كالفيروس الذي يدمر الهاتف .
موجة الجنون هذه عملية (تهكير) طالت المجتمعات بأسرها على الخارطة الأرضية ، حيث إننا لم نفهم كيف تأثر بها الناس وكيف لم يتوان البعض عن تهديد حياته وتعريضها للخطر من أجل هذا التحدي .
هذا التحدي يعيد الى ذاكرتنا أكثر من حدث شبيه ،مثل تحدى الثلج حيث انتشر بين المشاهير سكب وعاء مليء بالثلج على رؤوسهم وطبعا سرى التقليد كما تسري النار في الهشيم ،فانتقل من مشاهير الغرب الى مشاهير الشرق،على أساس الزمالة الإبداعية والتقليد الأعمى، ولا يمكن أن ننسى احمر الشفاه وطبعا تأثر بهم السذج في عالمنا العربي ،ثم جاءت أغنية (هلا بالخميس ) وقد احتلت ألسنة وعقول الجميع دون استثناء وروج لها مشاهير العرب، وشهد العالم العربي لفترة طويلة هذا المس الذي يظهر كل ليلة خميس .واليوم تسيطر رقصة تحدي الكيكي على عقول الناس على امتداد خطوط الطول والعرض والآتي أعظم.
لماذا تحدث هذه الظواهر وبماذا ترتبط ؟هل هذا الأمر التفاعلي الأعمى سببه العولمة وقدرتها على نشر الحدث ومتابعته من قبل أعداد كبيرة من الناس الذين يسكنون مواقع السوشيل ميديا ليلا نهارا بحثا عن طريقة موازية للحياة بعوالم افتراضية،كحالة هروب من الواقع وايجاد مجتمع متواز يستطيع الإنسان فيه صناعة شبكة علاقات قادر فيها على التحكم وضبط إيقاعها بكبسة زر، أو لأنها علاقات بلا التزامات زمنية أو مادية ،تقوم على مجموعة مجاملات، قيمتها جمل معلبة تطلق على شكل تعليقات.
هذا النقد لا يعني رفضا لشبكات التواصل ولكن محاولة لتصويب موجات الجنون الذي يجتاحها خاصة ان تحدي رقصة الكيكي سجل حوادث سير وإصابات بحسب التقرير العالمي للحوادث .
لعل ما يزعج بتحدي الكيكي،هو الأمة العربية صاحبة القضايا الأكثر وجعا على وجه الأرض،وصراعاتها التاريخية التي تتعلق بالجغرافية والثقافة واللغة والدين والفقروبشكل وجودها وتموضعها بين كل الأمم.
بمتابعة للذهنية الجماعية لهذه الأمة يتساءل البعض كيف لا تهزمهم كل هذه الإشكاليات والأزمات، وكيف لا يطلقون تفاعلا مؤثرا مع قضاياهم يهز العالم ويغير مفهومهم ورؤيتهم عن هذه الأمة، التي تخلت عن عاداتها ولغتها وأصبحت تصر على ان يتكلم ابناؤها اللغة الإنجليزية ويرقصون على موسيقى الغرب ويرتدون ملابسهم ويعيشون أحلامهم ؟.
المشكلة الكبرى هو فراغ الرؤية وعدم وضوحها، وعدم الاعتزاز الفعلي بثقافتنا العربية.
قد يعترض البعض ان الامر لمجرد التسلية. تسلوا وانتم انفسكم ،تسلوا وأنتم في وعي كامل فبعد مشاهدتي لبعض الفيديوهات لرقصكم وتقليدكم خجلت من تفاهة التقليد،حقا بدوتم من كوكب آخر، وكأنكم مشهد مدبلج تتحركون كالماريونات وتتمتمون بتعاويذ تزيد جنونكم باختصار غرباء في مشهد لا يشبهكم .