تحصلت الحكومة على ثقة مجلس النواب بأغلبية مقبولة، خاصة وان الجمهور ينظر إلى الحكومة بشيء من التفاؤل بناء على التصريحات الأولية لدولة رئيس الوزراء، وبناء على الوعود التي قطعها بالعمل بجدية ومن منظور المشاركة والمشاورة. وهذا أمر معتاد البدء فيه في معظم الحكومات السابقة. ومن جانب آخر فإن الثقة التي يمنحها البرلمان للحكومة لم تعد أبدا تكفي لأن تطمئن بأن كل شيء سيكون على مايرام، بل إن الضمانة الوحيدة للحكومة هي ثقة المواطن فيها وتلمسه لأدائها الناجز.
ذلك إن مشقة الحياة اليومية للمواطن سواء كان موظفاً حكوميا أو في القطاع الخاص، والضغوط النفسية الناشئة عن اتساع دائرة الفقر والبطالة وتراجع الفرص، ومنافسات اللاجئين والعمالة الوافدة، وبطء الإصلاح، وعدم الحسم في قضايا الفساد، والمنطقة الملتهبة حولنا، كل ذلك يدفع الناس إلى عدم الثقة بالإدارة، وتصديق الأقاويل والإشاعات، بل والإضافة عليها ونشرها في كل مناسبة. ولا ينبغي لأي حكومة أن تتجاهل كل ذلك لما يترك من نتائج سلبية في كل اتجاه، ومما يدفع الجهاز الحكومي للتراخي والتساهل في خدمة المواطن وغياب النزاهة. والمطلوب من الجميع، والحكومة في بدايات مسيرتها، التوسع في المواجهة والمصارحة. بهدف الإصلاح ومن خلال: أولاً : أن يكون لدى الحكومة «قائمة تأشيرية» بالمواضيع التي يعتقد الناس أنها موضع خطأ أو إهمال أو شبهة أو فساد أو محسوبية أو مخالفة للقانون، ويتم ارسالها إلى الوزارة أو المؤسسة ذات العلاقة لتقوم هذه بالرد والإجابة والتفسير والاقناع، ليس للحكومة نفسها أو هيئة النزاهة، وانما للرأي العام وللقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني.ثانيا أن تخرج الحكومة أو الوزارة أو الدائرة المعنية بإجابة واضحة ومقنعة حول ما يدور أزاءها من شائعات وأقوال وأن تكون الإجابات سليمة ومقنعة مدعمة بالأسانيد التي تحترم عقل المواطنين وخبرة الخبراء، وذلك حتى يغير المواطن من موقفه ويتراجع عن التشكك باتجاه الثقة. ثالثا : أن تحسم الحكومة مسألة الحد الأعلى للرواتب والمكافآت والبدلات بحيث لا تتجاوز مبلغاً معينا وتحول الفروق إلى صندوق تنمية المحافظات. رابعاً : أن يتم وضع ضوابط كافيه لعدم استغلال أموال الصناديق الاستثمارية والإدخارية والوقفية لمصالح أو مكاسب شخصية أو فئوية من خلال الثغرات القانونية أو الترتيبات المسبقة. خامسا: أن تتولى الحكومة الاعلان التفصيلي عن الحالة المالية للشركات الكبرى ذات المساهمة الحكومية وتستعين بمجموعة من الخبراء الأردنيين لوضع خطط وبرامج لخروج تلك الشركات من مآزقها المزمنة.سادساً : أن تعطي الحكومة تفسيرا مقنعا للإضافات على الرسوم والضرائب بل والفواتير مثل فاتورة الكهرباء، وفاتورة المياه وهل هي اضافات دائمة أم مؤقتة.
إن أقناع المواطنين بالتوجه نحو ترسيخ النزاهة في المؤسسات، وعدم الاستغلال، وعدم الإفراط الفاحش في الرواتب والمكافآت لممثلي المؤسسات الرسمية وما في حكمها (و التي مقياسها الأعلى 15 ضعف متوسط دخل الفرد)، كل ذلك هو ركن أساسي في تجسير الفجوة بين المواطن والدولة، وشرط لتحسين الأداء في المستقبل وعلى كل صعيد، وأمر تستطيع حكومة الدكتور عمر الرزاز القيام به.
ما يقال وما يشاع عن تغول البعض على مال الدولة، وما يرافق ذلك من فساد الأشخاص والمؤسسات، أمر يدعو إلى القلق وفقدان الثقة. نعم لا لصحة هذه الأقاويل، ولكن لأن الكثيرين من المواطنين في مختلف المواقع يصدقونها كما تنتشر. ومن المصلحة الوطنية أن تحسم الحكومة الأمر وترد على الافتراءات بدلا من أن تتضخم في ذهن الناس لتصبح وكأنها حقيقة دامغة.
و من المواضيع التي يكثر الحديث فيها وعنها الرواتب والمكافآت التي يتقاضاها البعض بغير وجه حق، إضافة إلى إمتيازات ومنافع عينية،. وهذه الرواتب والمكافآت التي يقال أنها تزيد عن رواتب قادة دول العالم الغنية تثير الغضب والتذمر. فدونالد ترامب في أمريكا يتقاضى ما يعادل 27 ألف دينارشهريا، وميركل في ألمانيا 16 ألف دينار، وماكرون في فرنسا 18 ألف دينار، وشينزو ابيه في اليابان 16 ألف دينار..فإذا تذكرنا أن متوسط راتب موظف الحكومة لدينا هو 495 دينار شهريا ومتوسط راتب موظف القطاع الخاص هو 475 دينار شهرياً، وأن الغذاء وحده يلتهم حوالي 40% من متوسط دخل المواطن الأردني، ندرك لماذا أصبح التذمر والتشكك في كل شيء ظاهرة عامة، الأمر الذي يزعزع ثقة المواطن في الحكومة وعادليتها، حتى بالقرارات السليمة.كذلك لا بد من وضع قواعد وضوابط لتعيين ممثلي الحكومة أو مؤسساتها في مجالس إدارة الشركات التي تساهم فيها، وأن تكون الكفاءة والأهلية والشفافية فيصل التعيين وليس العلاقات الشخصية والمصالح المشتركة والمحسوبية والقرباوية والتنفيع والتسكيت. وهذه أقوال تصدر على الألسنة في المناسبات وعلى المنابر الإعلامية.
لقد أصبحت ثقة المواطنين في الإدارة الحكومية محل اهتمام جميع دول العالم المتقدم لأن هذه الثقة تنعكس على الإداء الإقتصادي والإبداعي للمجتمع، وعلى الالتزام بالقانون، وتنعكس على إقبال المستثمرين على الإستثمار وبناء المشاريع. أن الدول الإسكندنافية وسويسرا مثلا هي الأعلى على مؤشر الثقة بالحكومة وهي في نفس الوقت الدول الأقل فسادا، والأعلى في مشاركة المواطنين في رسم البرامج والسياسات. إن الحكومة وهي غير مسؤولة عن أخطاء من سبقها، تستطيع أن تبدأ صفحة جديدة في هذا الاتجاه ومن أجل المستقبل، وذلك يمثل الترجمة العملية للعقد الاجتماعي المنشود.
ثقة المواطن.. بعد ثقة النواب..؟/ د. إبراهيم بدران
12