جميل أن ترفع حكومة الدكتور عمر الرزاز شعار “التشاركية” كمبدأ للعمل بموجبه ، خاصة بعد أن عانت الدولة و لا تزال، وعانى المواطن من نتائج الاستفراد بالرأي واهمال مشاركة الآخرين. ومن يبحث عن نموذج صارخ للعمل الرسمي عالي الكلفة شديد الخطورة أوغل في الاستفراد و صم الآذان، وهو في نفس الوقت لا يقوم على علم ولا يصغى لآراء العلماء والخبراء، من يبحث عن نموذج للعمل الذي لا يستقر على حال لأنه ينطلق من مفاهيم وافتراضات تخطاها الزمن، فلينظر إلى هيئة الطاقة النووية وأعمالها وقراراتها. بدأت الهيئة عام 2007 لتبشر الأردنيين بإنشاء محطة نووية ضخمة 2000 ميغاواط، محطة أكبر من أن تتحملها الشبكة الكهربائية الوطنية، وأكبر من أن يتحمل الأردن تمويلها، وأضخم من أن يتم توفير مياه التبريد لها ، وأخطر من أن تتجاهل فيها الكوارث النووية التي تحتاج كميات غير محدودة من المياه. وراحت الهيئة توهم الأردنيين بأننا سوف ننتج اليورانيوم بآلاف الأطنان، وسوف نبيعه بمليارات الدولارات سنوياً . وحددت عام 2012 لانتاج 2000 طن وبيعها في الأسواق العالمية. وحتى يومنا هذا لم تنتج الهيئة الا بضعة غرامات في المختبر. و خلال هذه الفترة و ما بعدها، و لنيل رضا الرأي العام، تجاهلت الهيئة حقيقة أن لا علاقة عملية أو هندسية أو اقتصادية أو تشغيلية بين المحطة النووية وتعدين اليورانيوم ، وأن اليورانيوم يحتاج إلى مياه لانتاج الكعكة الصفراء وهو ليس كالنفط يدر مئات الملايين من الدولارات ، و أن قيمة ال 1000 طن لا تصل 80 مليون دولار و أن الإحتياطي الذي تشير إليه لا يتجاوز 46 ألف طن. وفي كل مناسبة كان الخبراء والعلماء الأردنيون و الدوليون ينبهون الهيئة إلى طريقها غير الصحيح وتفكيرها غير العلمي ، ولكن دون جدوى، بل كانت الهيئة تزداد تمسكا وتعنتاً .و جندت نفرا من الإعلاميين لتسويق المحطة الضخمة في كل مكان و حتى في المدارس ، و استخدمت شتى الوسائل لإقناع المواطنين ان المحطة النووية الضخمة هي طريق الخلاص من فاتورة الطاقة الباهظة، و ستحول الأردن إلى دولة تكنولوجية. و امتنعت وسائط الإعلام الرسمية بضغط من الهيئة عن مقابلة اي خبير أو نقل و بث أي رأي يخالف توجه الهيئة. وكان الفشل الثاني للهيئة عجزها عن إثبات جدوى المشروع و فشلها في استجلاب ممولين بعدة مليارات للمحطة الضخمة. وهي نتيجة طبيعية ومتوقعة وتم التنبيه اليها . فعادت الهيئة تتحدث عن أن روسيا سوف تمول نصف المشروع وغير ذلك من افتراضات لا يقبلها العقل التجاري أو الاقتصادي أو الهندسي. وقبل اشهر قليلة عادت الهيئة لتعلن أن التمويل لم ينجح و أن المحطة الضخمة سوف يتم استبدالها بمفاعلات صغيرة 270 ميغاواط وهي من الجيل الرابع، و أنه سوف يتم بناء عدة مفاعلات في مواقع مختلفة، وغير ذلك من عموميات و كأن المحطة النووية مصنع شيكولاته يمكن إنشاؤه في أي مكان، و كأن القفز من 1000 ميغاواط إلى 270 ميغاواط لا يحمل أي مدلولات و تبعات هندسية أو اقتصادية أو استراتيجية. كل ذلك والعلماء والخبراء يؤكدون المرة تلو المرة أن الاختيار خاطئ من الأساس، فالاردن ليس بحاجة إلى الطاقة النووية من البداية، بل ان العالم اخذ يخرج من الطاقة النووية ويتجه إلى الطاقة المتجددة بأشكالها المختلفة، و أهمها الشمسية والرياح، والتي أصبحت أقل كلفة من الطاقة النووية منذ عام 2010، و أقل حجما في الإستثمار، واقل عبئا على الاقتصاد الوطني، ومتاحة لكل منزل ومدرسة ومصنع، خاصة وان الشمس في بلادنا تجعل من الطاقة الشمسية مصدرا عالي الكفاءة قليل التكلفة (اقل من 40 فلسا للكيلو واط ساعة للطاقة الشمسية مقابل 140 فلسا للطاقة النووية).
وبالامس خرجت الهيئة بتصريح غريب بررته بأن تغيرات حصلت في قطاع الطاقة (مع أن شيئا لم يتغير)، و أن “الأردن سيتعاون مع السعودية وكوريا لإنشاء مفاعل نووي صيني” صغير تماما 70 ميغاواط ،و سوف توقع الهيئة الإتفاقيات اللازمة ،و كأن الأردن حقل تجارب للمفاعلات الجديدة . هذا علما “أن المفاعل الضئيل المشار إليه غير مستعمل في أي بلد لغايات تزويد الشبكة الكهربائية ،و أنه يستعمل في البواخر المجهزة كمحطات عائمة في البحر لاستعماله في عمليات الإغاثة أو تزويد الجزر النائية، أو لأغراض خاصة ،و لم تمض سنوات كافية لإثبات صلاحيته و تحمليته و اعتماديته ، كما أن جدواه الإقتصادية و الفنية و الأمنية و الإستراتيجية و اللوجستية في تزويد الشبكات الكهربائية بالطاقة لم تثبت بعد”. أي تخطيط واي خلط هذا؟ وما لزوم مفاعل نووي ضئيل 70 ميغاواط غالبا ما يستعمل في البواخر،و لا يقدم ولا يؤخر في الطاقة الكهربائية الأردنية؟ ولكنه يتطلب الحماية واللوجستيات والتمويل والمياه لحالة الطوارئ باعتباره محطة نووية. و أين ستذهب الهيئة من مخاطر بيئية وامنية واستراتيجية تفرضها على الوطن بدون مبرر؟ وفوق ذلك تقول الهيئة أن مشروع ” المفاعل الضئيل” سيتم التعامل معه على اساس BOT. أي أن المقاول يبني المفاعل ويشغله وبعد 20 سنة أو اقل أو اكثر يسلمه إلى الأردن… وهذا الاسلوب اسوأ مسار على الاطلاق للمشاريع ذات التعقيدات الهندسية أو التشغيلية. لان المقاول يستثمر المشروع وهو في افضل حالاته، ويسلمه للمالك بعد أن يكون المشروع قد تهالك و اهتلك،و ظهرت تكنولوجيات جديدة وأصبح على حافة التغيير و الإستبدال. و تذكرنا مفاعلات الهيئة بالكثير من المشاريع الوهمية التي يتم انفاق عشرات بل مئات الملايين من الدنانير عليها من الخزينة، وتكون الحصيلة في النهاية لا شيء.
متى يصبح قرار استراتيجية الطاقة قرار دولة قائم على الرأي الجماعي و عبر القنوات الدستورية، وليس قرار شخص أو اشخاص؟ و متى يخرج القرار من اسر معلومات و افتراضات تجاوزها التقدم التكنولوجي؟ كفى استفرادا في الرأي وكفى اصرارا على الخطأ. فالدول لا يصنع مستقبلها إلا الرأي الجماعي المتساوق مع التقدم العلمي ومع تطلعات الشعوب، والمستند إلى آراء الخبراء والعلماء والمستفيد من تجارب الدول. كفى ثم كفى. و سواء كان المفاعل ضخما 1000 ميغاواط يناسب بلدا بحجم مصر او تركيا، أو صغيرا 270 ميغاواط يناسب بلدا بحجم قبرص أو مالطا ،أو هزيلا ضئيلا 70 ميغاواط يناسب باخرة أو غواصة، و لا يناسب الأردن أي من الثلاثة ،فالطاقة النووية لا لزوم لها. نحن بأمس الحاجة إلى الإستثمار في إنشاء سكة حديد، وفي التصنيع، و تنمية المحافظات، فهذا هو المستقبل لبلد لديها من الطاقة المتجددة ما يكفي،و الأمل أن تأخذ الحكومة و البرلمان موقفا حاسما من هذه المسألة
الاستفراد بالرأي.. طريق التخبط والخطأ /الدكتور ابراهيم بدران
10
المقالة السابقة