إنها السياسة!
بعد جولات من الشتائم بين الرجلين خلال الأشهر القليلة الماضية، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في سنغافورة، وتبادلا النكات والابتسامات وخرجا إلى العالم باتفاق جديد قد يغير وضع شبه الجزيرة الكورية للأبد.
العجوز البغيض المجنون المهووس بالحرب النووية، كما كانت تصفه الدعاية الكورية الشمالية التقى القصير السمين ورجل الصواريخ الصغير، كما وصفه ترامب في تغريداته. تصافح الرجلان وابتسما للكاميرات ودخلا في اجتماع مغلق، أعقبه توقيع اتفاق مشترك من أربع نقاط، ثم تناولا الطعام سوياً، قبل أن يطيرا إلى بلديهما ليفسرا انتصارهما بالطريقة التي يفهمها مواطنوهما!
إنها السياسة!
اتبع كل منهما الطريق الذي يخدم مصالحه، كانا في مرحلة الشتائم يبنيان مصلحة ما، ثم عادا واستكملا بناء مصلحة أخرى جديدة بلقائهما الأخير وضحكاتهما المشتركة.
إنها السياسة!
والكتابة في السياسة تشبه تماماً السباحة بعينين مغمضتين في بحيرة غير معروفة المساحة، بالإمكان الوصول خلا ثواني إلى الضفة، وقد تمضي السنوات وأنت محاصر بالماء والفراغ! الكتابة في السياسة هي في العادة «خواطر خبرة» لا أقل ولا أكثر، ومن هذه الخواطر حول لقاء سنغافورة ما يلي:
أولاً: لم يشأ الرئيس الكوري الشمالي «كيم جونغ أون» أن يظهر في اجتماع سنغافورة وكأنه الرجل المهزوم الذي جاء ليحقق رغبة أميركا في نزع سلاحه النووي. أنهى هذا الأمر مبكراً مع نظيره الكوري الجنوبي مون جاي إن، واطلع العالم عبر إعلان «بانمونجوم» في نيسان (أبريل) الماضي عن نية بلاده التخلص من برنامجها النووي، وجاء لسنغافورة كي يحصد ثمرة هذا الإعلان وليس ليستمع لترامب– في المربع الأول- حول ضرورة خضوع كوريا الشمالية للمجتمع الدولي! جاء طالباً وليس مطلوباً… جاء منتصراً وليس خاسراً!
ثانياً: كانت سعادة دونالد ترامب بتوقيع هذا الاتفاق المبدئي عظيمة لسببين، الأول: أنه خارج نطاق مجلس الأمن، بحيث لا خمسة ولا زائد واحد! كانت عينا ترامب طوال اللقاء تقولان: «إن ما لم تستطيعوا أن تحققوه أيها «الأربعة زائد أوباما زائد واحد» مع إيران، قد حققته وحيداً مع كوريا الشمالية وبأقل التكاليف». أما السبب الثاني لفرحة ترامب فمتعلق بالأثر الذي سينعكس على شعبيته في الداخل الأميركي بعد إقصاء التهديد النووي الكوري الشمالي المزعوم للمدن الأميركية، وبأقل قدر من التكاليف أيضاً!
ثالثاً: يعرف الرئيس الكوري الشمالي، ربما من تلقاء نفسه، وربما من مستشاريه ومراكز الدراسات السياسية والاجتماعية التابعة له أن دولته (الديموقراطية اسماً) لا تستطيع ببنائها السياسي القائم وعقيدتها في إدارة العلاقات الدولية أن تقاوم التغيرات العالمية المتسارعة. يعرف «أون» أن عليه أن يحدث تغييراً كبيراً إذا ما أراد أن يعبر المرحلة! يدرك الرجل أن دولته التي ستكمل عامها الـ70 بعد أشهر قليلة في حاجة إلى تغيير جلدها بالكامل لتنجو من انهيارها من الداخل كما حدث بالضبط للاتحاد السوفياتي السابق، لهذا اختار الطريق الأسهل: أتنازل أولاً عن الأسلحة النووية أمام غريمي الأصغر، ثم أقطف ثمرة عودتي إلى المجتمع الدولي من التسهيلات التي سأحصل عليها من غريمي الأكبر!
رابعاً: العالم في كفة وأميركا في كفة. هذا هو واقع اليوم، وإن حاولت روسيا والصين التشويش على هذه الحقيقة في السنوات الأخيرة. لا أحد يستطيع النجاة في الوقت الحاضر من الأثر الأميركي المباشر، فكوريا الشمالية على سبيل المثال لم تستطع أن تقاوم العقوبات الأميركية على رغم شريان الحياة الممتد لها من حليفتها التقليدية الصين!
لا أحد يعرف بالضبط إلى متى ستستمر الهيمنة الأميركية على العالم، لكن على الأقل لا أحد يتوقع أن تنتهي في السنوات القليلة المقبلة.
خامساً: يبدع الروس دائماً في التفاصيل، وبوجود الداهية سيرغي لافروف على رأس الديبلوماسية الروسية، فإن التفاصيل تأخذ دائماً شكلاً سحرياً لا يمكن الجزم بماهيته وطبيعته. هذه القدرة الكبيرة على إدارة التفاصيل هي ما جعلت الموقف الروسي الرسمي يرحب بالاتفاق بين «ترامب وكيم»، ويحذر في الوقت نفسه من «الشيطان الذي يسكن التفاصيل»، كما ذُكر نصاً في البيان الروسي! الروس في العادة يتعاملون مع القضايا الدولية التي تعنيهم بطريقتين لا ثالث لهما: إدارة التفاصيل الصغيرة باحترافية كبيرة في حال استطاعوا الوصول إليها. وإن لم يستطيعوا أن يجدوا إليها سبيلاً فإنهم يدخلون الشيطان فيها بكل بساطة!