في تصريحه الأخير حول المفاعل النووي المزمع انشاؤه في الأردن، دون مبرر اقتصادي أو تكنولوجي، فاجأ رئيس هيئة الطاقة النووية الجميع بقوله: “ أن المحادثات مع شركة الطاقة النووية الصينية قطعت شوطاً كبيراً، وأن التوجه الآن (وبعد فشل الترتيبات مع روسيا) هو انشاء محطة نووية صينية، باستخدام مفاعلات صغيرة باستطاعة 220 ميغاواط”. ويأتي هذا التحول بدلاً من المحطة الروسية التي تم توقيع مذكرة تفاهم فيها بين الحكومتين الأردنية والروسية قبل عامين لبناء محطة بمفاعلات كبيرة باستطاعة 1100 ميغاواط للمفاعل الواحد أي 5 أضعاف المفاعل الصيني الجديد، وكان من المفترض بعد تكليف شركات روسية بدراسة الموقع، ومتطلبات المياه، وإجراءات التمويل، أن تكون المحطة عاملة عام 2022. وبعد أن تم التأكيد أننا سنبدأ بإنتاج الكعكة الصفراء وبيع أول 2000 طن يورانيوم عام 2012.
والأمر يدعو إلى الاستغراب والقلق من الأسلوب الذي يتم التعامل به مع مشروع “استراتيجي” بهذه الضخامة والكلفة والخطورة، بل وربما الاستهانة الناشئة عن عدم الاكتراث برأي الخبراء الوطنيين. وكما هو واضح للمتابعين فإن كل تصريح جديد للهيئة يزيد المسألة تعقيداً وارتباكاً. فمنذ عام 2007 والتصريحات تتوالى عن المحطة النووية واليورانيوم وبيع الكهرباء والمفاعلات الكبيرة والاتفاق مع الروس لإنشاء المحطة وبكلفة 10 مليارات دولار، واستعداد الجانب الروسي للتمويل والتصميم والتركيب والتشغيل واستلام المخلفات النووية في حينه.
وقيل أن الجانب الروسي التزم بتمويل 50.1% في حين أن الجانب الأردني سوف يمول فقط 11% (الف ومئة مليون دولار) فقط، والباقي من خلال شركات تتعهد بـ 49% من الكلفة.
وأشار أهل الخبرة والرأي أكثر من مرة إلى أن مثل هذا التناول للموضوع خاطئ من أساسه، ومن حيث المبدأ والتفاصيل.
أولاً : ان التوجه نحو الطاقة النووية في العالم هو في تراجع كبير، بعد النجاحات التكنولوجية والاقتصادية الهائلة في الطاقة المتجددة وخاصة الشمسية (الكهرضوئية)، وأن الكثير من الدول التي لديها مفاعلات نووية في طريقها إلى التخلص منها، كما هي الحال في المانيا وسويسرا مثلا.
ثانيا: إن بدائل الطاقة المتجددة وخاصة الطاقة الشمسية ثم الرياح أصحبت أكثر اقتصادية وأقل كلفة من مصادر الطاقة الأخرى بما فيها الطاقة النووية، سواء من حيث الاستثمارات الرأسمالية والتي تتراوح كلفة الكيلوواط الواحد فيها من 750 إلى 1000 دولار للطاقة الشمسية مقابل 3000 دولار إلى 5000 دولار أو أكثر لكل كيلو واط في الطاقة النووية.
وتتراوح كلفة الكهرباء من المحطة النووية بين 14 قرشا إلى 18 قرشا لكل كيلو واط ساعة مقابل 4 إلى 5.5 قرش للطاقة الشمسية.
ثالثا: إن توجه هيئة الطاقة النووية منذ البداية نحو مفاعلات ضخمة للغاية في حدود 1100 ميغاواط للربط على شبكة صغيرة حملها الأقصى 5000 ميغاواط كان خطأ علميا وتخطيطيا وهندسياً وكهربائيا واقتصاديا فادحا.
إذ إن هذا الحجم لا مبرر ولا لزوم له، ولا يضمن أي استقرار للشبكة الكهربائية، ولا يسهل لبلد في إمكانات الأردن التكنولوجية واللوجستية والمالية المتواضعة أن يتعامل معه.
وقد لمحت إلى ذلك اللجنة الاستشارية العليا للطاقة النووية. كما أن القفز إلى مفاعلات صغيرة تماما يمثل خطأ مشابهاً من حيث الفداحة، ومن شأنه أن يخلق اشكاليات في الأمن والأمان والصيانة والتشغيل، والتكاليف.
رابعاً: أن التفكير بأن الشركات الروسية وغيرها سوف تمول المشروع ولا يتحمل الأردن أكثر من 11% من اعباء التمويل في مبالغ ضخمة كان وهما بعيداً عن الصواب. ولا أحد يعلم من هو المستشار المالي والمصرفي الذي تتعامل معه الهيئة. والواقع أنه لا يوجد بلد في العالم، باقتصاد متواضع ومديونية تجاوزت 95% من الناتج المحلي الإجمالي، تستعد الشركات لتمويل مشروع له بكلفة 10 مليارات دولار.
خامساً: إن التفكير بتمويل المشروع من خلال الـ BOT أي الانشاء والتشغيل لفترة قد تمتد لـ 25 سنة، سواء للروس أو الصينيين، ثم ينتقل المشروع للأردن تفكير خاطئ أيضاً من الأساس، لأن البلاد “كأنها تشتري مشروعا مستعملا” بخطورة المحطة النووية بعد أن أصبح بحاجة إلى الصيانة المستمرة بعد 25 سنة من التشغيل.
سادساً: إن الافتراض الذي تروجه هيئة الطاقة النووية أن المفاعلات التي تتعاقد عليها آمنة لا تقع فيها كوارث وحوادث، سواء كانت روسية أو صينية هو افتراض خاطئ وفيه تضييع للرأي العام، ومخالفة لقواعد العمل التي أقرتها وكالة الطاقة الذرية الدولية وغيرها. إذ لا يوجد مفاعل غير معرض لحادثة ما تؤدي إلى تسرب اشعاعي، خاصة إذا تذكرنا ان عمر المحطة النووية في حدود 60 عاماً.
سابعاً : إن الأردن ليس لديه المياه اللازمة لمواجهة الكارثة النووية والتي يمكن أن تتطلب مئات الملايين من الأمتار المكعبة كما حدث في فوكوشيما وغيرها.
ثامناً: إن تجربة المانيا والولايات المتحدة الأمريكية في المفاعلات مرتفعة الحرارة والمبردة بالغاز HTR تبين أن الكثير من الأعطال والتوقفات جابهت تلك المفاعلات وبالتالي ليست هي الأفضل.
تاسعاً : ما الذي سيضيفه مفاعل 220 ميغاواط في شبكة قد يصل حملها الأقصى 5000 ميغاواط عام 2022؟ تجيب الهيئة بأنه سيتم تركيب عدة مفاعلات ربما 2 (أو 3 أو 5 أو 8 ). وهل ستصل إلى 2000 ميغاواط ؟ هذا كله خطر وخطأ اقتصادي وإداري وأمني فادح. هل ستكون كلها في موقع واحد أم ستكون منتشرة في عدة مواقع؟ وهذه مشكلة فنية ولوجستية وبيئية ومجتمعية وأمنية بالغة الخطورة.
عاشراً : أن كلفة إنشاء المفاعل الصيني ستكون في حدود 5000 دولار للكيلو واط أي أن كلفة المفاعل الواحد ستتعدى مليار دولار وكلفة الكهرباء المولدة سوف تتعدى 18 قرشا للكيلو واط ساعة، وأن اللأردن سيتورط باستثمارات تصل عدة مليارات تفاقم من مديونيته، للحصول على كهرباء مرتفعة الكلفة .حادي عشر: إن الصين التي كانت عازمة على إنشاء 18 مفاعل مشابه للمفاعل الذي تتحدث عنه الهيئة قد صرفت النظر عن تلك المفاعلات منذ عام 2012 ،وتحولت إلى مفاعلات بحجم 600 ميغاواط لتحسين الإقتصاديات واللوجستيات والإدارة،
وبالتالي هل نتوقع أن تدرك هيئة الطاقة النووية ذلك متأخرة ؟، ربما بعد سنوات؟.
وحقيقة الأمر أن التأرجح في القرار وفي التوجه واضح للغاية، ولا نعلم بعد مرور 11 سنة ما الذي ستستقر عليه الهيئة سواء من حيث: حجم المفاعل أو نوعه أو مكانه أو أوصافه أو كلفته أو اقتصادياته أو سلامته أو المياه اللازمة له أو كلفة الكهرباء المولدة منه أو وقوده أو تمويله أو مساهمة الأردن في نفقاته.
ويعود هذا التخبط إلى أن الرؤية التي انبثق منها القرار خاطئة. فالأردن ليس بحاجة إلى محطات نووية أبدا، ولايجوز أن تنفرد هيئة واحدة بمثل هذا القرار. ويمكن للطاقة المتجددة والغاز المسال وتخزين الطاقة والصخر الزيتي أن يلبي احتياجات الأردن لمئة سنة قادمة ويزيد، وبأقل كلفة ممكنة، وأقل مخاطرة تتعرض لها البلاد، في منطقة لا زالت تموج بالإضطرابات.
أن الهيئة لا تريد أن تعترف بالمتغيرات. فالطاقة المتجددة كانت شيئاً قبل 11 عاماً، والمديونية كانت 60% من الناتج المحلي الإجمالي واليوم أصبحت المديونية 95% وانخفضت تكاليف الطاقة المتجددة لتصبح الأقل.
ولعله نداء موجه من كل مواطن إلى هيئة الطاقة النووية: “رجاء تنبهوا أن العالم قد تغير، والأرقام تغيرت، واقتصاديات الطاقة المتجددة قد تفوقت. وأن الخبرة في التكنولوجيا النووية مطلوبة، ولكن ليس في المحطات النووية التي لا يحتاجها الأردن تكنولوجيا واقتصاديا ومائياً واستراتيجياً. استمروا في اكتساب الخبرة في التكنولوجيا النووية في السنكرترون والمفاعل البحثي لغايات الطب والزراعة والفيزياء، واتركوا مشاريع الطاقة النووية لبضع سنوات أو عقود.” فليس هناك من بلد يطمئن إلى مستقبله حين تنفرد مؤسسسة واحدة في صنع القرار في مشاريع استراتيجية ضخمة، في منطقة لم تعرف الاستقرار، وفي عالم يطور كل يوم شيئا جديدا.
المشاريع الإستراتيجية…… والبيانات المتأرجحة../ د. إبراهيم بدران
9
المقالة السابقة