هذا عنوان كتاب صدر عن مطابع جامعة كولومبيا الأميركية عام 2013. المؤلف هو الدكتور وائل حلاق، باحث اشتهر باعتباره أحد أبرز المتخصصين في الفقه والدراسات الإسلامية في الغرب. عنوان الكتاب يعبر مباشرةً عن فكرته المركزية، وهي أنه يستحيل من حيث المفهوم أن تتخذ الدولة الحديثة مضموناً وبالتالي صفة إسلامية، أو أن تكون الدولة الإسلامية دولة حديثة. لماذا؟ لأن ما بين هذين النموذجين السياسيين للحكم من التناقضات في المفاهيم، والمنطلقات، والمرجعيات، والأولويات، والأهداف ما يجعل إمكان التوفيق بينهما مهمة مستحيلة. بعبارة أخرى، يقول حلاق ان إمكان قيام دولة إسلامية، وفي الوقت ذاته حديثة، أمر مستحيل.
يكرس المؤلف كل فصول كتابه للبرهنة على صحة هذه الفرضية، ووجاهتها العلمية. وهي ليست فرضية جديدة تماماً، لكنه يتناولها من زاوية مختلفة عما هو سائد حول الموضوع. هي ليست جديدة من حيث أنها تميز بشكل واضح بين الإسلامي والحديث. لكنها فرضية جديدة من حيث أن المؤلف يقدمها من منطلق فلسفي مختلف، ومن منظور منهجي مختلف أيضاً. فهي تختلف عن فرضية الإسلاميين التي تقول ان الدولة الإسلامية تملك في أصلها وطبيعتها كل الإمكانات في أن تكون دولة حديثة، ما عدا أن تكون دولة علمانية. كيف تكون الدولة حديثة وفي الوقت ذاته ليست علمانية إشكالية أخرى نتركها الآن. أما حلاق فيرى أن هناك قطيعة فلسفية وأخلاقية وسياسية وقانونية نهائية بين الدولة الحديثة وما يسميه الحكم الإسلامي. يتمثل أساس القطيعة، كما يراه، في الفرق بين نموذج الحكم هذا ونموذج الدولة. قناعته أنه لم يكن هناك أصلا دولة إسلامية عبر التاريخ الإسلامي، وإنما حكم إسلامي. لماذا؟ لأن الدولة كما يقول مفهوم حديث يشير إلى بنية من العلاقات تتميز بكونها ظاهرة فريدة لم تعرف إلا في العصر الحديث. ومن ثم فالقول ان التاريخ الإسلامي عرف مفهوم الدولة بصفته الإسلامية هو ادعاء وجود شيء في زمن لم يوجد فيه هذا المفهوم أصلاً، ولا ينتمي إليه تاريخياً. هذا فضلاً عن أن مثل هذا القول يسيئ فهم الاختلافات البنيوية والنوعية بين الدولة الحديثة وما كان قبلها (من كيانات سياسية)، بخاصة «الحكم الإسلامي». (ص48-49 من الطبعة الإنكليزية). وعليه فإن إمكان التقاء هذين النموذجين للحكم (الإسلامي والحديث) وفق حلاق، هو أمر مستحيل استحالة التقاء السماء والأرض.
لماذا؟ لأن النموذج الذي يمثله كل منهما مفارق للآخر في منطلقاته ومحدداته الأخلاقية والسياسية والقانونية، بل والميتافيزيقية، ومن ثم في أهدافه النهائية. فإذا كانت «الجماعة أو the community» هي الشكل السياسي، والإطار الأخلاقي والقانوني في الحكم الإسلامي، فإن هذا الإطار في الدولة الحديثة هو «الأمة أو the nation». إذ إن الشريعة الإلهية هي أساس الجماعة، فإن حدود إطارها السياسي مفتوحة، وقابلة للتمدد. في حين أن إطار الأمة مغلق بحدود جغرافية وسياسية معينة ونهائية. أين يكمن مصدر هذه الاختلافات؟ أولها كما يقول المؤلف أن الدولة الوطنية (the nation-state) هي نهاية في ذاتها، أو «نهاية النهايات». لا ترى هذه الدولة إلا نفسها. وبالتالي فهي المصدر الوحيد والحصري لسيادتها ولإرادتها السيادية. في المقابل، نجد أن الجماعة ماهي إلا مجرد أداة لنهاية أعظم لا تملك في شأن تقريرها أي سلطة. ما يعني أن الجماعة لا تملك سيادة، ولا إرادة سياسية وقانونية مستقلة. وذلك لأن الله (وليس الجماعة) هو وحده مصدر السيادة. وبما أن الله هو «ملك الملوك»، فهو أيضاً نهاية النهايات. صحيح أن الجماعة تملك سلطة القرار، لكنها سلطة تفسيرية وحسب، محددة بمبادئ أخلاقية تتجاوز الجماعة، مبادئ مستمدة من شريعة إلهية لا تملك الجماعة حيالها إلا سلطة التفسير.
وحيث أن الله هو ملك الملوك، وصاحب السيادة، فهو يملك كل شيء. والملكية الإنسانية في مثل هذا السياق ملكية مجازية، وليست حقيقية. يمتد هذا المعنى لملكية الجماعة للقانون (الشريعة)، وللمدونة الأخلاقية. فهي ملكية ليست أصلية، وإنما مستمدة من مالكها الأصلي، وهو الله، المشرِع الوحيد، الذي يملك وحده الإرادة السيادية. وفق حلاق، هذا هو الأساس الميتافيزيقي الذي يحدد مفهوم الجماعة، وتبعاً لذلك الحكم الإسلامي، ومنه تستمد قانونها، ومبادئها الأخلاقية، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. لعله من الواضح أن هذا الأساس أو المصدر لا ينبع من الجماعة، بل يقع خارجها. على العكس من ذلك حالة الدولة الحديثة. فهذه الدولة تمثل بذاتها أساسها الميتافيزيقي الذي تستمد منه مفهومها وسيادتها وقوانينها، وأخلاقها، وتحدد على أساسه أهدافها. وهو أساس داخلي يبدأ من الدولة وينتهي إليها. (ص48-51) ويعبر عن الصفة العلمانية للدولة الحديثة، مع أن المؤلف لا يأتي على ذكر هذه الصفة مباشرة.
بناء على ذلك، وتفاصيل أخرى يصل المؤلف إلى النتيجة الأولية التالية: لا يمكن أن يكون هناك إسلام من دون نظام أخلاقي – قانوني مستمد من بُعد ميتافيزيقي. ولأن هذا البعد هو بالضرورة بعد إلهي وليس طبيعيا، فإنه لا يمكن بالتالي أن يكون هناك مثل هذا النظام من دون سيادة إلهية خارجية. في الوقت ذاته لا يمكن أن تكون هناك دولة حديثة من دون سيادة، وإرادة سيادية ذاتية. أي ميتافيزيقيا داخلية. لأنه لا يمكن لأحد القول إنه يمكن للدولة الحديثة الاستغناء عن هذا السمة الأساسية، سمة الملكية الذاتية للسيادة. وإذا كانت هذه المقدمات صحيحة، وهي كذلك كما يقول، فإن النتيجة المترتبة عليها أنه لا يمكن للدولة الحديثة أن تكون إسلامية إلا بقدر ما يمكن أن يكون للإسلام دولة حديثة.
هذه، كما ذكرت، نتيجة أولية لها تفاصيل أخرى يتناولها المؤلف في مختلف فصول الكتاب تنتهي بنتائج تفصيلية في الفصل الأخير. وهذا ما يتطلب مقالة أخرى. لكن ما تنبغي ملاحظته هنا أن أطروحة حلاَق تستند إلى فروق حقيقية بين نموذجين مثاليين لكل من الحكم الإسلامي، والدولة الحديثة. وهذا منهج يختزل التاريخ السياسي لكل من الإسلام والدولة الحديثة في هذا نموذج مثالي. وبما أن هذا النموذج هو أداة منهجية لقياس مدى اقتراب الواقع من المثال النظري، فإن السؤال في هذه الحال: إلى أي حد يقترب هذا النموذج في كلا الحالتين من التجربة التاريخية الحقيقية لكل منهما؟ منبع السؤال هنا إشكال أن مجادلة حلاَق تستند إلى نموذج نظري، وليس إلى تجارب وحالات تاريخية بكل ما تنطوي عليه من تفاصيل وتمايزات وتعقيدات يصعب تجاوزها. في الحال الإسلامية مثلاً، فإن أقرب حال لنموذج الحكم الإسلامي كما يصفه المؤلف هو الخلافة الراشدة. ماذا عن الفتنة الكبرى التي وضعت حدا لهذه الخلافة، ونجم عنها أشكال للحكم الإسلامي ابتداء من الدولة الأموية وحتى العصر الحديث؟ هل يمكن القول بأن مفهوم السيادة كما يفصله في نموذجه المثالي بقي على حاله طوال هذا التاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن؟ للحديث بقية.