عروبة الإخباري – كان قرار تعريب قيادة الجيش العربي الذي اتخذه المغفور له بإذن الملك الحسين بن طلال، دون النظر إلى مآلاته ونتائجه في ذلك الوقت العصيب، بداية الانطلاقة القوية للجيش العربي على وحي من رسالة الثورة العربية الكبرى ونبل رسالتها، وعلى قاعدة من العلم والمعرفة ومسايرة العلوم العسكرية والتكنولوجيا، فتسارعت همم الهاشميين وأطلقت العنان لأبناء الجيش لبناء مؤسستهم العسكرية الوطنية التي باتت مثالاً يُحتذى، ونبراساً لكل العرب بما حققته من سمعة عالمية عزّ نظيرها.
تعريب قيادة الجيش قصة وطن وشجاعة قائد عز نظيرها في حقبة زمنية شهدت محطات مفصلية من عمر المملكة، فالملك الشاب الذي لم يمض على توليه سلطاته الدستورية ثلاثة اعوام استطاع بشجاعته وحكمته وقوة بصيرته إعادة ترتيب البيت الأردني، وعرف أن الجيش هو أساس الدولة وسر قوتها.
أدرك المغفور له الحسين بحسه الوطني والقومي وبعد نظره، أنه يستحيل على الجيش أن يتطور أو يتقدم ما دامت قيادته من غير أبنائه المخلصين، وأنه لا يمكن أن يحتل مكانةً مرموقةً، إلا إذا تخلّص من قيادته الأجنبية التي لا همّ لها ولا شأن بتسليحه وتدريبه وتطوير قدرات منتسبيه، وعمل منذ اعتلائه العرش على التفكير باستبدالها بأخرى عربية تعمل على تطويره وتحديثه وتدريبه وفق أفضل المعايير الدولية للجيوش المتقدمة، ليكتب أبناؤه بعد ذلك، تاريخه المشرف ببطولاتهم العظيمة، وتضحياتهم الجسيمة على أرض فلسطين وغيرها من الأرض العربية، وفي شتى بقاع العالم رسولاً للمحبة والسلام.
في 1 آذار “مارس” 1956 الموافق ليوم الخميس تحديداً، اتخذ الحسين قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش وإعفاء الجنرال كلوب من منصبه بالإضافة لبقية القيادات الانجليزية.
وكان للحسين بصماته الواضحة باستكمال القرار السيادي للمملكة عندما قال: “إن الرأي العام كان يجهل أن قضية عزل كلوب من منصبه أردنية تماماً لأن كلوب كان قائداً عاماً للجيش العربي الأردني، ويعمل لحساب حكومتي”.
إن قرار التعريب الذي اتخذه الملك الحسين بكل شجاعة واقتدار، أعطى من خلاله لأبناء الوطن شرف قيادة الجيش، ويعتبر بمثابة حجر الاساس لتولي مسؤولية القيادة العسكرية، وخلق قادة من أبناء الوطن ارتقوا لأعلى المناصب رافعين رايات النصر والعز وظلت تخفق عالياً، زاهية بدمائهم الزكية، معطرة بتراب الوطن، حاملين الراية الهاشمية الخفاقة بالدفاع عن الوطن وقضايا الأمة.
اتخذ جلالة المغفور له القرار القومي التاريخي الجريء بتعريب قيادة الجيش وتخليصه من التَبعية الأجنبية غير آبهٍ بالنتائج بكل شجاعة، وهو الذي نذر نفسه وأبناءه لبناء مجد الأردن وخدمة أمته العربية والإسلامية ونصرة قضاياها، حاملاً رسالته القومية، واضعاً نصب عينيه مصلحة وطنه وشعبه وأمته، لتحضر الفرحة الغامرة على جباه أبناء الأسرة الأردنية الكبيرة.
التعريب خطوة جريئة فتحت للأمة آفاقاً رحبة من الانعتاق من التبعية والاستعمار، ويذكر التاريخ أنه في صباح 29 شباط “فبراير” 1956 وصل طيب الله ثراه للديوان الملكي في ساعة مبكرة مرتدياً بزته العسكرية وفي عينيه تأهب وتحفز وتحد للزمن ليلتقي يومها رئيس الأركان، وبدأ جلالته حديثه مستوضحاً منه عن رأيه بتعريب قيادة الجيش، وكان رد كلوب أن هذه المسألة ليست بالسهولة.
ويقول جلالته بكتابه (مهنتي كملك): “ولما كنت خادماً للشعب كان علي أن أعطي الأردنيين مزيداً من المسؤوليات، وكان واجبي أيضاً أن أقوي ثقتهم بأنفسهم وأن أرسخ بأذهانهم روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزز قناعتهم بمستقبل الأردن وبدوره إزاء الوطن العربي الكبير، فالظروف والشروط كانت ملائمة لإعطائهم مكاناً أكثر أهمية بتدبير وإدارة شؤون بلادهم لا سيما الجيش، ولكن رغم أن كلوب كان قائداً عاماً للجيش فلم يكن بمقدوره أن ينسى إخلاصه وولاءه لإنجلترا وهذا يفسر سيطرة لندن فيما يختص بشؤوننا العسكرية، وطلبت مراراً من الانجليز أن يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء إلى الرتب العليا وكان البريطانيون يتجاهلون مطالبي”.
وأثارت هذه التراكمات سخط جلالة الملك وزادت من إصراره على إنهاء خدمات القيادة الانجليزية بأي شكل، وأن هذا الأمر يجب أن يتحقق مهما كلف الثمن وبأقرب وقت وبلا تراجع، فجلالته كان على علم تام بما تخطط له القيادة الانجليزية حول التخلي عن هذا للضباط الأردنيين ومتى يمكن أن تفكر به.
وجاء رد الانجليز بأن سلاح الهندسة الملكي بالجيش لن يستطيع أن يتولى قيادته ضباط عرب حتى عام 1985، وهذا هو رد كلوب حين قال بأن المسألة ليست بالسهولة، عندها ابتسم -رحمه الله- ابتسامةً سرعان ما زالت عن شفتيه، وأخذ يسأل عن احتياطي الذخائر لدى الجيش، ومدى كفايته إذا ما نشبت الحرب بين الأردن وإسرائيل.
جاءت إجابات كلوب غير واضحة، وبقي السؤال يدور بخلد جلالته وتتراكم فوقه أسئلة وكلها تقود لوضوح الخطوة التي يجب الإقدام عليها.
يقول جلالته: “كنت أرى أن علينا بحال نشوب حرب أن نؤمن دفاعنا عن طول الحدود الإسرائيلية الأردنية وأن نصمد مهما كلف الأمر حتى الموت، كنت من أنصار الرد الفوري، وعبثاً أَبَنْتُ وشرحتُ ذلك لكلوب، فقد كان يواصل النصح بمراعاة جانب الحكمة والحذر، ويحبذ تراجع قواتنا للضفة الشرقية في حالة قيام هجوم إسرائيلي، وهذا يعني احتلالاً إسرائيلياً، كان ذلك غير معقول، ناقشنا أنا وكلوب هذه النظريات خاصة وأننا علمنا بأن الذخائر تنقصنا وقلت عندئذ: لماذا لا نستطيع أن نحصل على المزيد من كميات السلاح؟”.
كان طيب الله ثراه يعرف أن جواب كلوب سيكون متسماً بالحيرة والارتباك والضيق لأنه سبق له أن طلب ذخيرة وتعلل بضرورة توازن القوى.
وبادر جلالة الملك، رئيس الأركان بسؤال أخير عن رأيه بفصل الشرطة والدرك عن الجيش فجاء رده باستحالة ذلك، ولكن الحسين كان ينظر لموضوع التعريب بغير ما يفكر به كلوب.
كان الحسين يتطلع للتعريب بأنه خطوة لا بد منها مهما كان الثمن، فلا يعقل بأي شكل أن ينعم وطن بكامل استقلاله إلا إذا كانت قيادة الجيش الذي يحمي الاستقلال ويصونه بيد أبنائه الأوفياء.
مرت لحظات صمت وجلالة الملك مقطب الجبين وبداخله أشياء وأشياء، بعدها عبر رئيس الأركان عن نيته إخراج ضباط من صفوف الجيش، ووقف جلالته فجأة إشعاراً منه بانتهاء المقابلة ثم قال: “على كل حال سنتحدث بهذا الموضوع مرة قادمة”.
أجوبة خطيرة أرادها الحسين أن تكون الأخيرة، وفي السادسة من مساء ذلك اليوم، اتصل برئيس الديوان الملكي وأمره أن يذهب لمقابلة رئيس الوزراء وينقل إليه رغبة جلالته بفصل الشرطة والدرك عن الجيش واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك.
وعقد الحسين العزم فكان القرار، وهو الأمر الذي فكر فيه المغفور له منذ كان طالباً وقرر أن يضع حداً لكلوب وتدخلاته بإنهاء خدماته، إنها الخطوة الجريئة التي أقدم جلالته على اتخاذها وقابلها الشعب والجيش حباً بحب وولاء بولاء فأزالت عن الأردنيين هماً كبيراً وعززت ثقتهم بقائدهم وسداد رأيه وحكمته وبعد نظره.
وسطّر جلالته بصفحات التاريخ خطوةً مباركةً وجريئةً وقراراً مجلجلاً ليكون بذلك نهاية المعاناة وولادة المستقبل.
ومع صباح 1 آذار “مارس” 1956، أصدر جلالة المغفور له أمره لرئيس الديوان الملكي ورغبته بعقد جلسة لمجلس الوزراء يرأسها بنفسه، ونفذ الأمر الملكي لتنتهي الجلسة بإصدار قرار رقم 198 تقرر فيه إنهاء خدمة كلوب من منصبه، وترفيع الزعيم راضي حسن عناب من أبناء الجيش لرتبة أمير لواء وتعيينه بمنصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي ليكون أول قائد عسكري أردني يتسلم قيادة أركان الجيش بعد عزل كلوب.
وفي السابعة والنصف من صباح 2 آذار”مارس” 1956، نقلت الإذاعة الأردنية أنباء الخطوة الجريئة للحسين، وحمل الأثير صوت المغفور له وهو يحمل البشرى بنبرات قوية واضحة بخطاب قصير هذا نصه: “أيها الضباط والجنود البواسل أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم ضباطاً وحرساً وجنوداً وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا أن نجري بعض الإجراءات الضرورية بمناصب الجيش، اتخذناها متكلين على الله العلي القدير ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتنا، وآمل فيكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة، وأنت أيها الشعب الوفي، هنيئا لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه بسبيل الوطن ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا روح التضحية والفداء ومترسماً نهج الألى بجعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، والسلام عليكم”.
كان قرار الحسين سيادياً بحتاً ويعتبر خطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي ونقطة تحول هامة بتاريخ العرب الحديث ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، وأتاح للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها وصنع قرارها، بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها وأعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولي المسؤولية والتدريب على القيادة العسكرية وخلق القادة من أبناء الأردن.
كما أدت خطوة تعريب قيادة الجيش لتوظيف جميع قدراته وإمكانياته لخدمة أمن الوطن وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته، كما مكّن القرار صانعه جلالة المغفور له من بناء مؤسسة عسكرية حديثة ومشاركة القوات المسلحة بالخطط التنموية وبناء الوطن والمشاركة الفاعلة برفد مسيرة البناء والعطاء والمساهمة ببناء قدرات أبنائه وتأهيلهم ليكونوا بحق كما أرادهم الحسين ومن أجلهم اتخذ قراره التاريخي.
ان هذا الجيش ساهم باستقرار الكثير من الدول وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة من خلال قوات حفظ السلام وتبادل الخبرات وفتح مدارس التدريب والمعاهد العسكرية التي أهّلت ضباطه وأفراده ليكونوا بالطليعة وكما أرادهم الحسين، قائدهم الأعلى.
يمكن القول أن “التعريب” كان بحق جوهرة زينت جبين الأردنيين وغرست بالمجتمع والأسرة العسكرية شعاراً مفاده الإيمان بالله ثم الانتماء للوطن والإخلاص والولاء لقيادتنا الهاشمية.
أسس “التعريب” لدستور شرف عسكري أصبح رسالة وعنواناً وهوية تزين صدور النشامى والنشميات الذين أقسموا بالله على الإخلاص للوطن والملك والمحافظة على الدستور والقوانين والأنظمة النافذة بكل شرف وأمانة، وأدركوا منذ صيحة الحسين التي دوت بأرجاء المعمورة أن مهمتهم الأولى هي الدفاع عن الأردن وصون استقلاله وحماية الشرعية فيه، وهاجسهم على أمنه واستقراره، يبذلون بسبيل حرية وكرامة أهله، أرواحهم ودماءهم.
وعلى خطى الراحل الكبير، سار جلالة الملك عبدالله الثاني، ومنذ جلوسه على العرش في 7 حزيران “يونيو” 1999 وظل ملتزماً بنهج والده، ومنذ ذلك التاريخ وقواتنا تحظى بالاهتمام الأكبر من حيث التسليح والتدريب والتأهيل.
إن الجيش العربي، استطاع أن يتربع على قمة التميز والاحتراف، فسار بخُطى واثقة وخطط مدروسة جعلت منه منظماً محترفاً منضبطاً حاز على إعجاب القاصي والداني، فصار موضع احترام وتقدير وهيبة تتحدث عنه مراكز الدراسات والأبحاث بالعالم، ما يجعلنا نفخر بإنجازاته منذ تعريب قيادته ولهذه اللحظة التي وصل فيها في عهد الملك عبدالله الثاني إلى مصاف الجيوش المتقدمة ليتناسب ذلك مع طبيعة التهديد أيّاً كان مصدره ومستواه وحجمه.
وشهد الجيش العربي بعهد جلالته إعادة هيكلة لمختلف صنوفه، ومراجعة استراتيجية للارتقاء بمستوى الأداء ومواجهة كافة الظروف والاحتمالات والتحديات والتهديدات والمتغيرات من حولنا، وليكون إلكترونياً وديناميكياً متطوراً، عصرياً مرناً وقادراً على استيعاب كل جديد، وفتح المزيد من علاقات التعاون المشترك مع جيوش العالم، وتعزيز قدراته بمجالات التصنيع والتطوير والتحديث وفتح مراكز ريادية بمجالات التدريب والتعليم والتأهيل للوصول إلى معاني الاحتراف والتميز في كل ما يؤديه ويرنو للوصول إليه لتتناسب مع المسؤوليات الملقاة على عاتقه وليواكب كل جديد حتى غدى نموذجاً يُحتذى بالتضحية والإقدام والبذل والعطاء.
وانسجاماً مع الدور القومي للجيش العربي، سلم الملك عبدالله الثاني في 9 حزيران “يونيو” 2015، الراية الهاشمية للقوات المسلحة، لتنضم لرايات وأعلام الجيش العربي، خلال مراسم عسكرية مهيبة بساحة قصر الحسينية.
وتعتبر الراية برمزيتها الهاشمية ودلالتها الدينية والتاريخية والعسكرية الامتداد الطبيعي لراية الثورة العربية الكبرى التي احتضنت ألوان رايات الحضارة الإسلامية والعلم الأردني وأعلام ورايات الجيش العربي، الحافلة بتاريخ عريق يربط الحاضر بالماضي وتتوارثه الأجيال، ولتكون عنوان مجد وكبرياء، يحملها أبناء الجيش العربي المصطفوي بساحات الوغى، مثلما حملوا المبادئ السامية لرسالة الإسلام والثورة العربية الكبرى خدمة للوطن والتزاماً بالتاريخ وحفاظاً على الشرعية والإنجاز وتحقيقاً لمعاني التعريب التي أرادها الحسين رحمه الله.
وسلّم الملك عبدالله الثاني علم جلالة القائد الأعلى كأعلى درجة تكريم عسكري بالقوات المسلحة لعدد من تشكيلات ووحدات ومديريات الجيش، تكريماً لما يبديه منتسبوها من شجاعة وما يبذلونه من تضحيات وخدمات للوطن والمواطن.
وانطلاقاً من رسالة الجيش العربي الهاشمية الأصيلة استقبلت قوات حرس الحدود اللاجئين الذين عبروا الحدود الشرقية والشمالية، ولم يتوان الجندي الأردني بأخلاقه النبيلة أن يمسح بيديه دموع طفل، وإنقاذ عاجز، ومساعدة شيخ طاعن، ونساء أعياهن المسير والمرض، وهنا سجل التاريخ للنشامى موقفاً إنسانياً يضاف لرصيد سمعتهم وطيب منبتهم ورجولتهم وولائهم لقيادتهم الهاشمية، ولن ينسى العالم تلك الصور التي التقطتها عدسات كاميرات وسائل الإعلام والجندي الأردني يدفع بنفسه ودمه لينقذ طفلاً أو رجلاً أو امرأة.-(بترا)
تعريب قيادة الجيش: تجسيد للوحدة والحرية والاستقلال
12
المقالة السابقة