بدأت تظهر جليا ملامح “صفقة القرن”، وبدأت تتشكل المواقف العربية والدولية حولها، وبدأنا نحن الفلسطينيون نشعر بأن بعضا من هذه المواقف تتساوق مع ما يُطرح إسرائيليا بلسانٍ امريكي، وعلى الصعيد العملي أيضا بدأت ترجمة بعض الخطوط العامة لهذه الصفقة على الأرض وكان أولها قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ونقل السفارة إليها والذي سيكون في أيار القادم، ووقف المساعدات الأمريكية المقدمة إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، وأيضا الدعم الامريكي اللامحدود لسياسات الاحتلال في توسيع الاستيطان في الأرض المحتلة عام 1967، عدا عن سيل القوانين العنصرية التي بدأت الكنيست بإقرارها أو نقاشها.
لا شك بأن الخطاب الأخير للرئيس أبو مازن أمام الأمم المتحدة قد حدد الرؤية الفلسطينية المتعلقة بحل الصراع، ومن نافل القول بأنه وبدون موافقة الفلسطينيين على شكل وطبيعة “الحل” لا يمكن أن تمر أية “صفقة” بغض النظر عن من يطرحها أو يدعمها أو يسوقها، وهناك حقيقة ثابته بأنه لا يمكن لأي فلسطيني مهما كان موقعه أن يقبل بأقل من دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، والقدس الشرقية عاصمتها، عدا أن أنه لن يجرؤ أي فلسطيني على التنازل عن حق العودة، بحكم أنه حق فردي وجماعي، وبالتالي فإن “صفقة القرن” ومن يتبناها ومن يروج لها ومن يضغط من أجل أن يقبل بها الفلسطينيون سيكون واهما تماما، فما وافق عليه المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988، وتمسك به القائد الراحل الشهيد ياسر عرفات وهو القبول بــــ 22% فقط من فلسطين التاريخية لا يستطيع أحد أن يتجاوزه.
إلا أنه وبالرغم من ذلك فعلينا أن نكون مستعدين لمواجهة ما يحاك ضد المشروع الوطني، حيث لا يمكن لنا مواجهة العاصفة القادمة بكل ما تحمله من دمار للقضية والمشروع الوطني دون أن نكون موحدين وجبهتنا الداخلية قوية ومتناغمة ومتماسكة، وهذا يتطلب إنهاء الانقسام بشكل فوري والاعلان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على حمل متطلبات المرحلة، على أن تقوم بالتحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية، وبالتوازي مع هذا الأمر لا بد لنا من إعادة الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وعلى رأس ذلك الاعداد لانتخابات المجلس الوطني وفق ما تم الاتفاق عليه بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني.
على الصعيد الداخلي، شكلت قرارات المجلس المركزي في دورته المنعقدة في كانون الثاني من هذا العام، منعطفا مهما باتجاه إعادة البوصلة وتصويب المسار، ووضعت هذه القرارات خارطة تحرك مهمة نحو تجسيد الاستقلال، وترتيب الوضع الداخلي، ولا شك بأن تنفيذ هذه القرارات يضع مصداقية القائمين على المشروع الوطني على المحك، وليس من باب جلد الذات القول بأن معظم الممارسات التي أعقبت هذه القرارات لا تؤشر إلى وجود جدية في تنفيذها، لا بل أيضا خرقها والسير عكس ما تم إقراره، فالمطلوب الآن، وحتى نكون جميعا في خندق واحد، العمل على تطبيق القرارات وفق رؤية واضحة وبرنامج لا يضمن فقط السير باتجاه ما تم إقراره لا بل أيضا إلزام الجميع وعلى كافة المستويات بالحفاظ على عدم خرق هذه القرارات والسير وفق ما يتضمنه البرنامج، لأنه وبدون ذلك ستبقى فجوة مركبة ما بين ما يُقَر وما يُنفذ فعليا على الأرض، وأيضا ما بين من يتخذ القرار وبين المواطن، وهذا له انعكاسات سلبية على تمتين الجبهة الداخلية طالما أن المواطن لا يشعر بالثقة الكاملة بالقائمين على المشروع الوطني.
لا شك بأن “صفقة القرن” وبدون إسناد من الدول العربية لا يمكن لها أيضا أن تمر، لذلك فإننا كفلسطينيين نعول كثيرا على المواقف العربية الرافضة لهذه الصفقة والداعمة للحق الفلسطيني، ولكن في ذات الوقت نعي تماما حجم الضغوط التي تمارس على بلدان عربية بعينها ليس فقط لقبول الصفقة بل أيضا لتقوم هذه الدول بالضغط على الفلسطينيين كي يقبلوا بها، عدا عن معرفتنا التامة بأن الأوضاع العربية بشكل عام ليست على ما يرام، وأن هناك أحلاف وتكتلات شُكلت وتتشكل، على أساس ليس الأمن العربي والمصلحة العربية المشتركة بل على أساس مصالح كل دولة منفردة لكي تنجو بنفسها وتحافظ على نظام الحكم فيها، متناسين المقولة الشهيرة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
فليس سرا أن الحركة الصهيونية تريد “دولة إسرائيل” من النيل إلى الفرات، وتعمل على تحقيق هذه المقولة بدأً بإنهاء المشروع الوطني الفلسطيني والسيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية، مروا بإقناع العرب بأن “إسرائيل” ليست بعدو بل هي القادرة على درء المخاطر “الفارسية” المحدقة بالعرب، وبذلك فإنها تحرف البوصلة وتعمل على كي الوعي العربي، بأن إيران هي العدو وليس دولة الاحتلال، تمهيدا لاحتلال العقول قبل المباشرة بالسيطرة الفعلية، بأشكال وأدوات مختلفة، على المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات، فالمطلوب من العرب الآن التفكير مليا بما هو قادم على المنطقة برمتها، والامتناع ورفض التطبيع بكافة أشكاله ومسمياته مع دولة الاحتلال، وتحمل مسؤولياتهم القومية والتاريخية ليس اتجاه القضية الفلسطينية فقط بل اتجاه كل ما يتعلق بسيادة ومستقبل البلدان العربية مجتمعة ومنفردة، فدولة الاحتلال لن تكف عن السعي للسيطرة على ثروات وخيرات المنطقة العربية، وهذا يتطلب رسم التحالفات مع دول الاقليم على أساس أن نقيض المصالح العربية هي دولة الاحتلال وليس ايران أو غيرها، ولا بد هنا من ذكر المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان مدركا هذه الحقيقة وضل متمسكا ومحافظا على الحق الفلسطيني، باعتبار أن القضية الفلسطينية خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي، إلى أن قضى نحبه.
إن إعادة القضية الفلسطينية برمتها إلى أروقة الأمم المتحدة، والطلب بأن تكون الأمم المتحدة بالإضافة إلى روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي وفي مقدمته فرنسا برئاسة ماكرون، شركاء في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والاعلان رسميا بأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد وسيطا نزيها، بالإضافة إلى عدم قبول تفردها بحل الصراع، يشكل أساسا مقبولا للمضي قدما في تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهذا وفي سبيل تحقيقه يتطلب عمليا فلسطينيا دؤوبا لتحشيد الدعم باتجاه إعادة تدويل القضية الفلسطينية، لأن دولة الاحتلال ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل كل ما تستطيع من أجل منع هذه الخطوة و/أو تفريغها من محتواها.
نحن الآن أمام منعطف تاريخي خطير، وما يحاك للقضية الفلسطينية وللمنطقة العربية بشكل عام، لا بد من مواجهته لكي نحافظ على حقوقنا، وهذا يتطلب منا وبشكل فوري إنهاء الانقسام وترتيب البيت الداخلي وإعادة ثقة المواطن بالقائمين على المشروع الوطني من خلال تجديد الشرعيات، وتنفيذ القرارات والتمسك بالثوابت والدفاع عنها ووضع خطة مجابة شاملة ينخرط بها الكل الفلسطيني في الداخل والشتات. ولا بد أيضا من توجيه التناقضات الثانوية بين الدول العربية بعضها ببعض وبين الدول العربية وبعض دول الاقليم نحو التناقض الرئيس مع دولة الاحتلال التي تحاول السيطرة على مقدرات وثروات الأمة العربية وتسخريها لصالح المشروع الكولونيالي الاستعماري التوسعي، ولا بد كذلك من التمسك بتدويل القضية الفلسطينية وصولا إلى تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وأخيرا، نقول بأننا نعول أساسا على قدرة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على النهوض من تحت الركام، وإعادة توجيه البوصلة نحو القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، وستسقط “صفقة القرن” وسيحمل خيبتها الرئيس ترامب ومن تحالف معه، فحركة التاريخ لن تسمح ببقاء الاحتلال، وأيضا طالما بقي الاحتلال كانت المقاومة، والشعب الفلسطيني وعلى مدار التاريخ استنبط أدوات المقاومة اللازمة فهو شعب ليس بعاقر ولن يكون.
ماذا نحن فاعلون / منيب رشيد المصري
6
المقالة السابقة