ما يقوم به النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون ومليشياتهم الطائفية من مجازر وتدمير لقرى وبلدات غوطة دمشق الشرقية هو جريمة حرب من نوع خاص (عدد القتلى تجاوز حتى الآن 300 والمدينة تعيش شللا شبه تام)، بل مجزرة علنية تستهدف قتل ما تبقى من الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية، وكسر صمود أهلها وإجبارهم على ترك غوطتهم، استكمالاً لعمليات تهجير قسري ممنهجة اتبعها نظام بشار الأسد وحلفاؤه بمناطق سورية عدة منذ بداية حربهم على غالبية السوريين.
سيناريو حلب
لم يكتفِ النظام السوري وحلفاؤه بفرض حصار جائر على قرى وبلدات الغوطة الشرقية منذ خمس سنوات، بل تحاول قواته ومليشيات حزب الله اللبناني وسائر المليشيات الإيرانية اقتحامها منذ عدة شهور، باستخدام كافة أنواع القصف المدفعي والصاروخي.
هذا فضلاً عن القصف بالبراميل المتفجرة وغاز الكلور السام، ومنع وصول المساعدات الغذائية والإنسانية إلى قرابة 400 ألف مدني يواجهون خطر الموت بسبب الحصار، حسبما أعلنه فرحان حق الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة.
وتستهدف طائرات النظام الحربية والقاذفات الروسية المدارسَ والمستشفيات والمحال التجارية ومحطات الكهرباء والمياه، لكسر إرادة الناس وإجبارهم على ترك أماكنهم ليكونوا لاجئين أو موتى، في محاولة لتنفيذ مشروع التغيير الديموغرافي الذي ينفذه نظام الأسد والإيرانيون في سوريا بارتكاب المجازر، بغية إفراغ المدن والبلدات من سكانها الأصليين وتوطين عائلات من المليشيات وسواهم.
وتُرتكب هذه المذبحة أمام مرأى العالم وسمعه وخاصة مجلس الأمن والدول المعنية بالملف السوري، التي تعجز عن تبني موقف حازم بشأنها يضع حداً لها، في حين أن ما يعرف بالمجتمع الدولي لا يحرك ساكناً سوى إبداء قلقه منها، والدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الأمن بغية التصويت على مشروع قرار يدعو إلى هدنة إنسانية لن يمررها الفيتو الروسي.
والأنكى من ذلك هو أن الأمين العام للأمم المتحدة اكتفى بالتعبير عن قلقه المتطابق مع قلق من سبقوه في منصبه، في حين أن مبعوثه الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا تحدث أمام مجلس الأمن -بلغة محايدة- قائلا إن “تصعيد القتال في الغوطة الشرقية قد يجعلها حلب ثانية”.
وكأن دي ميستورا لا يعلم من يشن حرب الإبادة على سكانها المدنيين الذين يسقط منهم العشرات بل المئات كل يوم، ولم يستطع القول إن الروس والمليشيات الإيرانية ومليشيات النظام قاموا بتدمير أحياء حلب الشرقية أواخر 2016، ونظموا عمليات تهجير قسري لمئات الآلاف من سكانها المدنيين، فتحولوا إلى مشردين ونازحين ولاجئين.
خيانة الاتفاقات
رغم أن منطقة الغوطة الشرقية ضُمت -خلال مفاوضات جرت في القاهرة برعاية روسية مصرية- إلى “مناطق خفض التصعيد” في 22 يوليو/تموز 2017؛ فإن الروس -الذين هندسوا اتفاقات مناطق خفض التصعيد مع الأتراك والإيرانيين خلال اجتماعات أستانا- لم يحترموا تعهداتهم وضماناتهم.
بل إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هدد سكان الغوطة الشرقية علانية بسيناريو تدميري مماثل لسيناريو حلب، وما يستتبعه من إخراج مقاتلي المعارضة وتهجير سكانها المدنيين؛ وذلك بحجة إخراج عشرات مقاتلي “هيئة تحرير الشام”، التي خاضت فصائل الجيش السوريالحر وفصائل أخرى بالغوطة معارك ضدها فاستطاعت تحجيمها.
ويُخفي الساسة الروس أهدافهم ومخططاتهم المتمحورة حول الوقوف إلى جانب مليشيات النظام والمليشيات الإيرانية للسيطرة على كافة مناطق المعارضة، بدءاً من الغوطة الشرقية ومروراً بشمال مدينة حمص ووصولاً إلى مناطق جنوب حماة، وإخراجها مما سموْها زيفاً “مناطق خفض التصعيد”.
وذلك بعد فشل مسار اجتماعات أستانا واستكمال غاياتها التكتيكية وإخفاق الروس في مؤتمر سوتشي، مع العلم بأنهم اجترحوا هذه الاتفاقات لغاية خاصة بهم وبالإيرانيين والنظام، بغية تسهيل قضم مناطق سيطرة المعارضة الواحدة تلو الأخرى، وخاصة بعد انتهاء معارك مليشياتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في البادية السورية، وإعلانهم الانتصار عليه.
هذا إضافة إلى أن مليشياتهم لن تستطيع الاقتراب من مناطق النفوذ الأميركية شرق نهر الفرات ومنطقة الجزيرة السورية بكاملها، بعد أن قتلت القوات الأميركية المئات من المليشيات الإيرانية والمرتزقة الروس، الذين حاولوا الاقتراب من مناطق النفوذ الأميركية.
وقد تعوّد النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون على تمرير تمسكهم بالحل العسكري منذ بداية حربهم على الغالبية السورية، وحاولوا إخفاءه بالظهور بمظهر من يريد الحل السياسي، وفي كل مرة كانوا يختبرون ردة فعل المجتمع الدولي على المجازر التي يرتكبونها بحق السوريين، وحين يجدون أن ردة الفعل ضعيفة يتمادون في ارتكاب المزيد من الجرائم.
حدث ذلك مرات عديدة، أخطرها مجزرة السلاح الكيميائي التي استخدم فيها غاز السارين أو غاز الأعصاب ضد سكان الغوطة الشرقية والمعضمية وسواهما، حيث قضى أكثر من 1400 شخص يوم 21 أغسطس/آب 2013.
وكانت تلك كانت جريمة حرب كشفت عجز المجتمع الدولي، حيث بلع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الخط الأحمر الذي وضعه واكتفى بصفقة مريبة مع الروس، ثم داس عليه النظام السوري مراراً وتكراراً بعدئذ في حالات عدة ليس أخراها مجزرة خان شيخون في أبريل/نيسان الماضي.
أهمية الغوطة
ويبدو أن النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين يستعجلون الوقت في أيامنا هذه لتحقيق حسم عسكري مهما كان ثمنه في الغوطة الشرقية المحاصرة على حساب دماء المدنيين، وذلك بعد أكمل مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين تثبيت نفوذهم على الأراضي السورية.
وخاصة بعد أن تلقت المليشيات الإيرانية والروسية ضربة قوية من طرف الولايات المتحدة الأميركية، والاشتباك الذي حصل داخل سوريا بين الإيرانيين والإسرائيليين، وما يمثله ذلك من تحديات للنفوذ الروسي في سوريا، واستهداف القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس الذي أثبتت أن الانتصار الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتينكان وهمياً.
ويولي النظام وحلفاؤه أهمية كبيرة للغوطة الشرقية نظرا لما تمثله من بُعد إستراتيجي، بوصفها المدخل الجنوبي الشرقي لعاصمة “سوريا المفيدة” دمشق، ولإشرافها المباشر على طريق مطار دمشق الدولي ذي الأهمية العسكرية الكبيرة بالنسبة للنظام والإيرانيين.
كما تنبع أهميتها أيضاً من اتصالها المباشر بطرق تفضي إلى محافظتيْ درعا والسويداء باتجاه الحدود الأردنية من جهة الجنوب، وباتجاه الحدود العراقية من جهة الشرق، فضلاً عن أن الغوطة الشرقية هي آخر حصن كبير بالنسبة للمعارضة قريب من العاصمة.
وكانت الغوطة الشرقية -منذ دخول الروس في الحرب إلى جانب النظام ضد غالبية الشعب السوري- هدفاً رئيسياً للقتل والتدمير، حيث شهدت مرات عديدة تكثيفاً للقصف بالمقاتلات الروسية ومقاتلات النظام، رغم محاولات الساسة الروس إظهار أنفسهم وكأنهم معنيون بإيجاد حل سياسي في سوريا.
أما في واقع الأمر؛ فإنهم يؤكدون بأفعالهم أنهم قوة احتلال للبلاد، وطرف فاعل في الحرب البشعة التي يخوضها النظام وحلفاؤه ضد غالبية السوريين، ويسعون إلى إنهاء المعارضة بشقيها العسكري والسياسي وتعطيل أي دور مستقبلي لها.
ويحشد النظام وحلفاؤه المزيد من مليشياتهم وقواتهم لتحقيق غايات الساسة الروس والإيرانيين في تثبيت احتلال سوريا الذي لن يكتمل إلا باحتلال الغوطة، معتقدين أن احتلالها سُيفضي إلى حسم المعركة ضد إرادة غالبية السوريين لصالحهم، كي يتمكنوا من تثبيت نفوذهم في سوريا.
لكن رغم كل ذلك؛ فإن إرادة الصامدين في غوطة دمشق الشرقية والمدافعين عنها كافية للذود عنها، ولإفشال محاولات الغزاة الروس والإيرانيين في قهرها واحتلالها؛ ومهما ارتكبوا من فظائع وحشدوا من قوات ومقاتلات فلن ينالوا من عزيمتهم.