تسارع اسرائيل باتخاذ خطوات متلاحقة باتجاه ابتلاع الأراضي الفلسطينية من جهة، واقفال الملف الفلسطيني من جهة أخرى. ويرى نتنياهو واليمين الإسرائيلي في وجود دونالد ترامب وجاوش كوشنر، فرصة لا تتكرر لاستغلال الدعم الأمريكي والرئاسي غير المشروط باتجاه الاستجابة لكل ما تقوم به اسرائيل، دون أي التزام بما أقره الرؤساء السابقون، ودون أي تهيئة سياسية ودون اي مقدمات. أمريكا اليوم هي رهن الإشارة الاسرائيلية كما لم تكن كذلك في أي يوم من الأيام، ولذا يعمل نتنياهو على ثلاثة محاور كبرى يريد لإسرائيل الانتهاء منها بكل الوسائل، الأول : الإمكانات العسكرية للدول العربية المجاورة لها دون الدخول في حروب معها، والثاني الموقف السياسي والقانون الدولي تجاه الاحتلال الإسرائيلي للاراضي الفلسطينية، والثالث البعد الاجتماعي والانساني للموضوع الفلسطيني على الصعيد الدولي .
فعلى الصعيد العسكري تمكنت اسرائيل من خلال الولايات المتحدة الأمريكية والقوى المتطرفة التي تعمل لصالحها وعملائها في المنطقة والأخطاء الكارثية العربية من تحطيم العراق، وتحويله إلى دولة ضعيفة مفككة. وكذلك نجحت في تدمير سوريا وتهجير 25% من مواطنيها واستباحتها للقوى الدولية والإقليمية، وأصبح البلدان مهددين بالانقسام والتفتت إلى دويلات صغيرة في أي لحظة، وغدا الحفاظ على بقاء النظام والحكم هو الشغل الشاغل للسياسيين فيها،وليس الوطن أو الشعب أو بناء الدولة، وراحت تغذي المتطرفين في سيناء لاستنفاد قوة مصر وإنهاكها.
وقد جاء هذا التدمير والإنهاك بأقل التكاليف والخسائر الممكنة، وهو أمر لم تكن تحلم به اسرائيل أن يتم بهذا الكلف الرخيصة والتي لم تزد عن بضعة مليارات من الدولارات مقابل مئات المليارات كانت ستتكلفها العمليات العسكرية .
وفي المحور الثاني السياسي فقد عملت إسرائيل، ومنذ اغتيال إسحق رابين، على استعمال اتفاقية أوسلو كغطاء لمعظم إجراءاتها الاحتلالية، في حين اتجهت من جانب واحد إلى الانتهاء من القضايا السياسية المعلقة وفي مقدمتها القدس والحدود والمستوطنات .
وتطمح اسرائيل إلى الانتهاء من هذه القضايا أولا: بإصدار قوانين تنص على ضم القدس والمستوطنات بل كامل الضفة الغربية إلى إسرائيل، وثانياً الضغط من خلال إدارة ترامب على الدول المختلفة للاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل، واقناع تلك الدول بقبول الفلسطينيين لمكان آخر قريبً منها كعاصمة للدولة الفلسطينية «التي لن تسمح لها بالقيام»، وثالثا: اعتبار الجدار العنصري الفاصل بين الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل هو خط الحدود المؤقت.
وقد حققت في هذا المحور نجاحات واضحة خاصة في القدس والمستوطنات والجدار العازل، غير ان المحور الثالث وهو الاجتماعي الانساني يمثل اكثر المحاور تعقيدا لأنه يعتمد على الشعب الفلسطيني ذاته، وفي مقدمة هذا المحور قضية اللاجئين الفلسطينيين الذي أجبروا على هجرة منازلهم ويزيد عددهم اليوم عن 5.5 مليون لاجئ .
وخلافاً لمعظم لاجئي العالم فقد احتل اللاجئون الفلسطينيون موقفاً سياسيا وقانونيا خاصاً تمثل في إنشاء وكالة أمم متحدة متخصصة بتشغيل وإغاثة اللاجئين الفلسطينيين هي الأنروا وصدور عشرات القرارات عن الأمم المتحدة تؤكد حالة الاحتلال التي تقع في الأراضي الفلسطينية وأهمها القرار 194 لعام 1949 والذي تنص المادة 11 منه على «حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم أو التعويض لمن لا يرغب في العودة «. ولأن إدارة ترامب لا تستطيع أن تستصدر قراراً من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن بوقف أعمال الأونروا بسبب التعاطف الدولي الكبير مع الموضوع الفلسطيني وبسبب الفيتو الروسي المحتمل في مجلس الأمن، فقد اتجهت اسرائيل إلى العمل نحو تفكيك الأونروا منذ أواخر التسعينيات من خلال اقتراح بدائل لها وتجفيف مواردها المالية والتي تأتي على شكل منح من الدول المختلفة، ولذا قررت إدارة ترامب تخفيض مساهمة أمريكا من 130 مليون دولار إلى 65 مليون دولار لهذا العام، ويأمل نتنياهو أن يصل إلى النقطة التي يتم فيها تفكيك الأونروا والحاق اللاجئين بالمفوضية العامة للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وآنذاك تتراجع خصوصية المسألة الفلسطينية ويتحول اللاجئون الفلسطينيون إلى جزء من الأرقام العالمية للاجئين.
ومن جانب ثالث، فإن التعاطف القوي مع اليهود في أعقاب الاضطهاد النازي أخذ في التراجع بشكل ملحوظ في أوروبا، وبدرجة تقل كثيراً وصراحة في أمريكا، ويعود ذلك إلى أسباب ثلاثة : الأول : إن الأوروبيين وهم الأكثر قربا من الشرق الأوسط واحتكاكا فيه أخذوا يشاهدون الاضطهاد « النازي العنصري» الذي تمارسه اسرائيل ضد الفلسطينيين، بحيث حولت غزة بكاملها إلى معسكر اعتقال وإبادة بطيئة على غرار المعسكرات التي خبرها اليهود، وأخذ الأوروبيون يرون في اسرائيل مصدراً للحرب والشر والعنصرية وأن كان ذلك لا يصرح به علنا .
الثاني : إن الجانب الانساني والحقوقي للفلسطينيين بدأ يبرز في المحافل الدولية ومنظمات المجتمع المدني وعلى كل صعيد، في الفنون والآداب والعلوم والنشاط الانساني خاصة بعد أن تركزت مقاومة الاحتلال في المقاومة المدنية واللاعنف واللجوء إلى القانون الدولي والمؤسسات الدولية .
الثالث : إن الساسة الأوروبيين أقل اعتمادا على اللوبي الصهيوني في حملاتهم الانتخابية ومساراتهم السياسية من نظرائهم الأمريكيين، وهم، ولكون أوروبا أكثر قرباً للشرق الأوسط، مدركين لخطورة القضية الفلسطينية، وأثرها على الاستقرار في المنطقة والنتائج التي يمكن أن تتأثر بها أوروبا إزاء التعنت والتكالب والغرور الاسرائيلي والذي سيؤدي إلى انفجار المنطقة من جديد.
وتحاول إدارة نتنياهو أن توحي بأن العرب جميعهم متعاونون معها، ولم تعد تعنيهم المسألة الفلسطينية، وتستخدم بذلك العملاء ووسائط التواصل الاجتماعي والإعلام والصحافة أولاً: لإشاعة الشكوك والتفرقة بين الأقطار العربية ، وثانياً :إشاعة اليأس بين الفلسطينيين، وما لا تريد اسرائيل الاعتراف به، أن التطبيع مع المؤسسات العربية الرسمية لا يغير من حقيقة الرفض الكامل لدى الشعوب العربية لاسرائيل وسياساتها دون استثناء، ولا تريد أن تعترف بأن التاريخ تصنعه المجتمعات وليس الحكومات.
إن خطة نتنياهو واليمين الإسرائيلي والصهيونية للانتهاء من الموضوع الفلسطيني خلال السنتين القادمتين الباقيتين لدونالد ترامب، والذي من غير المتوقع أن ينجح في دورة رئاسية ثانية، هذه الخطة لا بد من افشالها من خلال الصمود الفلسطيني على الأرض والتماسك والانتهاء من الانقسام، ومن خلال تعزيز الجانب الإنساني الاجتماعي للشعب الفلسطيني، ومخاطبة الرأي العام الدولي والمحافظة على الأونروا كمؤسسة لا ينتهي دورها إلا بحصول اللاجئين على حقوقهم غير القابلة للتفاوض، وكذلك جميع القرارات التي اتخذتها المؤسسات الدولية لصالح حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم وإنشاء دولتهم على ترابهم الوطني وعاصمتها القدس، وتفعيل الآليات القانونية الدولية، فذلك الذي يمكن أن يغير مسار المستقبل الاستعماري البغيض الذي تحلم به اسرائيل.
نتنياهو وترامب … سباق الدورة الرئاسية/ د. إبراهيم بدران
13
المقالة السابقة