يبدو أن القناعة لم تتوفر بعد “للإدارات المتعاقبة” ،أن المبالغة في الانفتاح التجاري ،وفتح جميع الابواب لاستيراد كل شيء واي شيء، من شأنه أن يسارع في إضعاف الاقتصاد الوطني ،ومن شأنه أن يجعله عاجزاً عن توليد فرص عمل جديدة.و هذا ما انزلقت فيه اليونان مع بداية القرن،و احتاجت 10 سنوات للخروج الأولي من أزمتها. و تنبه منظمة العمل الدولية بأن البطالة و التي وصلت 18.5% مرشحة للإرتفاع في الأردن في حين أن المطلوب 100 الف فرصة عمل سنويا. وكما يعترف بذلك صندوق النقد الدولي حين يقول مديره في الشرق الأوسط أن النمو الاقتصادي العربي ليس كافيا لخلق فرص العمل المطلوبة. كيف ستنشأ فرص العمل اذا كان الاقتصاد ينمو بمعدلات ادنى من النمو السكاني؟ واذا كان كل شيء يتم استيراده جاهزاً؟ و جزء كبير منه معفى من الجمارك بموجب إتفاقيات التجارة الحرة غير المتكافئة التي تم عقدها في السنوات الماضية ؟، في حين تفرض الضرائب و الرسوم على مدخلات الإنتاج للصناعة و الزراعة الوطنية؟ ولعل آخر ما طاله الانفتاح التجاري، و ليس الإقتصادي، غير المنطقي، هو المشتقات النفطية. فبعد أن كانت مصفاة البترول وهي مؤسسة وطنية يعمل فيها مئات العمال تزود المملكة باحتياجاتها من المشتقات منذ أكثر من 50 عاما، مددت الحكومة المهلة للشركات الراغبة في دخول ميدان “توريد المشتقات جاهزة”، و ليس تصنيعها. وبالتالي فأن القيمة المضافة لعملية التكرير ستذهب إلى المستثمر و التاجر الأجنبي . وحين نتأمل الأرقام نجد أن ملكية الشعب الأردني تتراجع في البنوك والشركات الكبرى وسوق الأوراق المالية وغيرها .
المفارقة الملفتة للنظر،أن الملك يضع “المسألة الإقتصادية” في قمة أولوياته، والحكومات تضع “المسألة المالية وليس الإقتصادية” في قمة أولوياتها . كيف ستحل الدولة مشكلاتها المالية دون اقتصاد صناعي انتاجي متقدم ؟ كيف سيتمكن المواطن من مواجهة تكاليف المعيشة المتصاعدة سنة بعد سنة نتيجة للضرائب التي تفرضها الحكومة، بدون إقتصاد إنتاجي يرفع من دخله و يوفر له فرصة عمل ؟حتى المساعدات فلا يمكنها أن تغطي سوى جزء محدود من الاحتياجات .وهذا يعني أن الدولة دخلت “مرحلة ألإدمان الإقتراضي”.إذ أنها تداوي مشكلاتها المالية بالإقتراض الذي أصبح حالة ذهنية و نفسية تسيطر على تفكير الإدارات و توجهاتها.و الإقتراض بعيدا عن الإقتصاد الإنتاجي يؤدي إلى مزيد من الإقتراض و الذي يصبح تلقائيا مع المساعدات أكبر المنبهات لإبعاد المستثمر و إخافته من المغامرة برأس ماله في “بيئة الإدمان الإقتراضي”.
الضرائب طريق مسدود لا مستقبل له، وبالتالي فالإصرار على زيادة الضرائب والرسوم دون التفكير بعواقبها الاقتصادية والإجتماعية أمر يدعو إلى العجب و القلق والريبة . عشرات المرات ينبه الخبراء ألى أن مئات المصانع قد اغلقت أبوابها،و أخرى على وشك، وقطاعات انتاجية متعددة على حافة الانهيار بسبب عدم قدرتها على منافسة المنتج الأجنبي المدعوم في بلده في حين أن المنتج الوطني يعاني الضرائب والرسوم العالية.
إن النظم الضريبية في المنطقة العربية ونحن منها غير عادلة ،وهي بحاجة إلى الأخذ بمبدأ التصاعدية والذي أقره الدستور الأردني في المادة 111. كما أن الوصفات الجاهزة من المؤسسات المالية الدولية لإعادة هيكلة الاقتصاد هي في جوهرها وصفات مالية لا تتناول جوهر المسألة الإقتصادية التي تركز إلى الانتاج والتصنيع.
ومن جانب آخر فإن الانتقال إلى الدولة المدنية التي يشارك الناس فيها في صنع القرار والخروج من الحكومة ” الفردانية ” التي تتكون من أفراد قائمين بذواتهم المحترمة وليس الفريق الذي يحمل برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعيا محدداً ،هذا الخروج من هذا النوع من الحكومات لا يمكن أن يتحقق دون ديمقراطية حقيقية عمودها الفقري الأحزاب الوطنية والقوى السياسية والاجتماعية المساندة لها. إن “العمود الفقري للدولة الحديثة يتمثل في اقتصاد قوي متنامي، ونظام سياسي ديمقراطي يحفظ للمجتمع تماسكه، ويعبر عن امكاناته وطموحاته” . وكل التفاف على هذين المحورين هو إضاعة للوقت واستنزاف للإمكانات وبيئة خصبة للاحباط والتراجع. فالمساعدات تضغط باتجاه مزيد من الانفتاح التجاري على حساب المنتج والعامل الوطني، أي تفكيك الاقتصاد، والمساعدات تضغط باتجاه القبول السياسي بمواقف الآخرين، و كما أشار الملك إلى ذلك صراحة في مسألة القدس. إن الاقتصاد القائم على الريعية والاستيراد و الانفراط الإقتراض والمعونات، يعمل على تفكيك المجتمع، وتخفيض الولاء للوطن، وعدم الاكتراث واللامبالاة، و توليد الثروة لقلة من الناس على حساب الطبقة الوسطى و المحدودة الدخل. في حين أن الاقتصاد القائم على التصنيع هو الذي يجعل التغيير الاجتماعي ضرورة وقابلاً للتنفيذ ،لأن الجميع شركاء في الوطن و صنع مستقبله: العامل وصاحب العمل والدولة والممول و المصنع والجامعة والمدرسة ومنظمة المجتمع المدني. وهذا من شأنه أن يجعل الأحزاب ضرورة والديمقراطية مصلحة مشتركة للجميع.
إن امكانات الدولة الأردنية كبيرة بما لديها من رأس مال بشري وخبرات متنوعة،و حشود من الشباب الطموح، وبما يتمتع به الأردنيون من ولاء لدولتهم، وجدية في العمل، وخاصة حين يرون القدوة والنموذج والمثال في القيادات الحكومية العليا. فمتى يتم استثمار هذه الامكانات بالاتجاه الصحيح ، و الإرادة الصادقة و البرامج النافذة و الشراكة الكاملة.؟ أليس هذا هو جوهر ما يدعو إليه الملك و خاصة في لقائه الأخير مع الشباب؟؟.
الاقتصاد والتصنيع..الأحزاب والديموقراطية/ الدكتور ابراهيم بدران
10