ليست العلمانية إنكاراً للأديان، وإنما هي إنكار لدور رجال الدين بصفتهم، في إدارة الدولة وتوجيهها. هذا ما كان يدعو إليه المفكر فرج فودة، ولهذا اغتاله الإخوان، لأنهم كانوا يريدون أن يحكموا ويتحكموا.
الدول كالبشر والشركات بحاجة إلى التطور والتغير ومسايرة العصر، وإن فشلت في تحديث ذاتها، فإنها تضمحل وتموت، أو على الأقل تبقى في الدرك الأسفل. فما تواجهه أي دولة حديثة من مشاكل تتعلق بتوفير الأمن والغذاء والرفاهية والسلام الاجتماعي والديموقراطية لا يمكن مواجهته دون تحديث وتطوير مستمرين، فقد ضاعت نظم سياسية، وخسرت شركات عالمية ضخمة، لأنها فشلت في مسايرة التطور، كما تخلفت غيرها من دول وشركات لعجزها عن التنبؤ بالتغيير الذي أحدثته منافساتها، فتقهقرت بعدما أن كانت الرائدة في مجالها.
كما نرى أن الشركات العالمية، إذا أرادت النجاح، فإنها تدرس متطلبات زبائنها، وكيفية إرضاء أذواقهم وإجراء التغييرات الفنية والتعاقدية اللازمة، التي يتطلبها الأمر، وبصورة مستمرة، دون نظر الى جنسية هؤلاء الزبائن ومشاربهم ومعتقداتهم. والأمر ذاته ينسحب على الحكومات، التي يفترض ألا يكون لها انحياز لدين محدد، في عالم متغير متعدد الأعراق والأهواء والديانات وحتى الفلسفات. فالدين يخص مكونات المجتمع من أفراد وجماعات، والدولة للجميع وليست لفئة محددة منه، مهما علت نسبتها. والدولة ملزمة بالتعامل مع الجميع على قدم المساواة، فقد ولت دولة الجنس الواحد والعرق الغالب، والدول التي تفشل في أن تصبح للجميع ستتكاثر عليها المشاكل وتهددها بالتفتت والتفكك، ولا عبرة هنا بالنوايا الحسنة! وكل من يصدق أن سلالته أو قبيلته أو دينه أو مذهبه أو جنسه أحسن وأرقى من غيره سيفشل حتماً في التعامل مع الفئات الأخرى من مواطنيه وفق منطق المساواة والعدالة في الحقوق والواجبات، وهو منطق الدولة العصرية، هذا إذا أردنا أن نستمر في الوجود ونتطور للأمام!
وبالتالي فعلينا أن نختار بين دولة منحازة إلى جزء من شعبها، ظالمة، مضطربة وخائفة ومستبدة، أو أخرى متعددة الثقافات منفتحة على الجميع، وتعاملهم على قدم المساواة، دون تفرقة بين عرق وآخر أو جنس وغيره أو دين وخلافه! علماً بأن الأولى غير محصنة من الاختلاف والاضطراب، فالصراع داخل الأغلبية وارد دائماً، مهما كانت متماسكة، فالخلاف سيدب حتماً إن بسبب كلمة أو تفسير لجملة أو طمع في حكم! وما نراه من أمثلة مخالفة لما ذكرنا واستمرار الصمود والبقاء لبعض الدول بالرغم من الإصرار على فرض معتقدها وتفسيرها الديني الخاص على الجميع لن يصمد إلى الأبد، وإن صمد فلفترة، قد تكون مرهونة بثراء تلك الدول النقدي، وما تتبعه من سياسات بطش وتنكيل، وليس لأنهم على حق، وأن نموذجهم قابل للتطبيق والاتباع من الآخرين.
نعيد ونكرر بأن دستورنا بحاجة إلى جرعة «علمانية» أكبر، والشعب بحاجة إلى هامش حرية أوسع، وقانون المرئي والمسموع أصبح بالياً، وطغى ظلمه، وحان وقت تعديله.
أن نكون أو نفنى/أحمد الصراف
10
المقالة السابقة