بعيدا عن النقاشات والتوقعات التي سبقت ورافقت وتبعت انعقاد المجلس المركزي في دورته الثامنة والعشرين، فإن جملة القرارات التي خرج بها، وبشكل عام، تلامس أحيانا وتتماهى أحيانا أخرى مع المواقف التي طرحتها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والشخصيات المستقلة التي شاركت في الاجتماع، وإن كان قد امتنع عن التصويت على هذه القرارات أربعة فصائل هي الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب فدا والمبادرة الوطنية، إلا أنه يمكن تفسير هذا الامتناع (وليس الاعتراض) على أنه يأتي في سياق الرغبة في أن يتخذ المجلس قرارات أكثر وضوحا وقوة.
ومع التأكيد على أهمية القرارات التي خرج بها المجلس المركزي إلا أن العبرة تكون في تنفيذها وترجمتها على أرض الواقع، وهذا الأمر يتطلب إرادة سياسية تترافق مع تحمل الجميع لمسؤولياته بحكم أن مصيرنا واحد، وجميعنا في خندق واحد، معتمدين على أنفسنا، حتى نتمكن من الصمود في وجه ما يتعرض له المشروع الوطني برمته من أخطار تتطلب قيامنا بترتيب بيتنا الداخلي، والاتفاق على برنامج وطني قائم على أساس الشراكة السياسية الكاملة بين جميع مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
جميعنا ندرك صعوبة وخطورة المرحلة الراهنة، وبخاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمدينة القدس عاصمة لدولة الاحتلال، وما تبع هذا الاعلان من إجراءات أو تهديدات بقطع المساعدات عن السلطة الوطنية وتجميد المساهمة الامريكية في دعم موازنة الأونروا، واجراءات الاحتلال، الغير مسبوقة، التي تبعت هذه القرارات، وبخاصة تصويت الكنيست على ما يسمى بقانون “القدس الموحدة”. واستمرار الانقسام وتأثير هذا على الأداء الفلسطيني الرسمي والشعبي، في ظل غياب قيادة موحدة وبرنامج نضالي للتحركات الشعبية الجارية على الأرض وتحديد الهدف منها. أضف إلى ذلك تحلل وتفكك اتفاق أوسلو بكل مضامينه وهذا يترافق مع إجراءات الاحتلال الهادفة إلى تحويل الضفة الغربية إلى معازل سكانية وتطبيق نظام الفصل العنصري “الابرتهايد” وضم الضفة الغربية المحتلة والذي بدأ فعليا بتطبيق قانون دولة الاحتلال على المستعمرات المقامة عليها.
مواجهة كل ذلك يتطلب، مشاركة الكل الفلسطيني في اعتماد ووضع خطة عمل واضحة وبأهداف محددة تتضمن آليات عمل وتوزيع للأدوار، ومحددة زمنيا، يمكن أن تكون مدتها خمسة سنوات، أساسها الاعتماد على مكامن قوتنا الداخلية، وتفعيل التضامن العربي والعالمي رسميا وشعبيا من أجل أن نصل إلى حقوقنا المشروعة في العودة والدولة وتقرير المصير، وأن يتم السير في هذه الخطة من خلال “مطبخ” يكون تحت اشراف الرئاسة وبالشراكة مع كل مكونات الشعب الفلسطيني، ويتم تقييم العمل بشكل يومي، وفحص الآثار السياسية والقانونية والاقتصادية، والاعلامية، لأي خطوة يراد اتخاذها.
إن حجر الزاوية في أي تحرك له علاقة بالوضع الفلسطيني سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي هو إنهاء الانقسام، لأنه من المستحيل ترتيب البيت الداخلي، وحماية مدينة القدس، ومقاومة الاحتلال، طالما نحن منقسمون، فعلينا تذليل العقبات أمام إنهاء الانقسام، وإعادة بناء الوحدة الوطنية على أسس الشراكة الكاملة والسلطة الواحدة والسلاح الواحد، دون الاجحاف بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال على قاعدة أن قرار السلم والحرب هو قرار جماعي لا يحق لأحد أن ينفرد به. وهذا استحقاق فوري، يتم بعده تشكيل حكومة وحدة وطنية تكمل المسيرة، فيما يتم التوافق عليه حول ترتيب البيت الداخلي، بما فيها إجراء الانتخابات وتجديد الشرعيات جميعها، ويأتي كل ذلك في سياق تفعيل وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفق ما تم الاتفاق عليه في القاهرة عام 2005، بحكم أن المنظمة تشكل الهوية المعنوية والكيانية السياسية للشعب الفلسطيني، مع ضرورة إعادة النظر في طبيعة السلطة الوطنية الفلسطينية من حيث وظائفها والتزاماتها باعتبارها أحد أذرع منظمة التحرير الفلسطينية.
ومن ناحية أخرى وفي سياق ما يجب عمله في التصدي للقرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، فإن التصدي لهذا القرار يبدأ بتعزيز صمود مواطني مدينة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، وفق خطط كانت أصلا موجودة، ولكنها بحاجة إلى توفير الموارد المالية اللازمة لإعمالها، وتوفير هذه الموارد يعتمد علينا بشكل أساسي في الحكومة وفي القطاع الخاص، وتجنيد الاموال من الأخوة في الشتات، ومن الدول العربية والإسلامية والدول الصديقة، ووفق الخطط الموضوعة فإن لدينا تقديرات حول حاجة القدس السنوية من الاموال، سواء فيما يتعلق بالدعم المباشر، أو الخطط ذات العلاقة بمشاريع الاستثمار. كذلك لا بد من تفعيل جميع القرارات التي اتخذت فلسطينيا، وعربيا، وفي منظمة التعاون الإسلامي، بشأن توفير الدعم المالي لمدينة القدس من خلال الصناديق أو الوقفيات التي أعلن عنها.
إن توحيد المرجعيات المقدسية جميعها تحت مظلة الدائرة المختصة في منظمة التحرير شيء ضروري، لأن المنظمة هي المرجعية لكل الشعب الفلسطيني، وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية العمل ومن خلال المنظمة مع التجمعات المسيحية والإسلامية في كل دول العالم وبخاصة في الأمريكيتين، لتحشيد الجهود باتجاه تبيان أن قرار الرئيس ترامب يواجه معارضة كبيرة ليس فقط عند الفلسطينيين والعرب بل لدى كافة المسيحيين والمسلمين في العالم أجمع، وهنا يمكن الاستعانة بالمرجعيات الروحية مثل الأزهر والفاتيكان، وكذلك يمكن التنسيق بشكل كبير مع المجلس العربي الأرثوذكسي في فلسطين.
نعلم جميعا أن الحركة الصهيونية تعمل وفق برنامج وخطط محددة منذ العام 1800، وقد استطاعت أن تحقق خططتها ابتداء من معاهدة سايس بيكو مرورا بوعد بلفور وتأسيس الكيان عام 1948 واستكمال احتلالها لما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967، وصولا إلى أوسلو الذي وللأسف تُهنا فيه حتى الآن، وكان هدف الاحتلال منه هو قضم ما تبقى من الضفة الغربية بالاستيطان، والبدء بتنفيذ ما أعلن عنه في إقامة الدولة اليهودية.
لقد استطاعت الحركة الصهيونية تهجير القسم الأكبر من الفلسطينيين عبر المذابح والارهاب، وتريد أن تستكمل هذا التهجير ولكن بأساليب أخرى، ولآن علينا التفكير ماذا نحن فاعلون أمام هذه السياسة العدوانية، كيف لنا أن نحافظ على وجودنا، الجواب عندنا جميعا وهو إعادة الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار ماذا يمكن أن يترتب على هذا الفعل. وأيضا تعزيز علاقاتنا مع روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي وأيضا الدول التي صوتت لصالح فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة فيما يخص الاعتراف بدولة فلسطين.
وإن الرعاية الامريكية وحدها أصبحت غير ذات جدوى في ظل تأييد الإدارة الأمريكية الحالية ودعمها المطلق لسياسات دولة الاحتلال، وهذا يتطلب ضرورة العودة إلى المجتمع الدولي والأمم المتحدة راعية لأي مفاوضات قد تنشأ لاحقا، مؤكدين بأن هناك العديد من المبادرات التي طرحت مثل المبادرة العربية للسلام، والمبادرة الفرنسية والمبادرة الصينية وغيرها التي استندت إلى قرارات الشرعية الدولية، مع التأكيد على أن أي حل يجب أن يضمن حق العودة وأن تكون القدس الشرقية هي عاصمة الدولة العتيدة.
وبالتوازي مع ما طرح سابقا فإن تعزيز وتفعيل ودعم المقاومة الشعبية على قدر كبير من الأهمية، ويجب أن تُبنى على أساس خطة واضحة وأهداف محددة، حتى لا تكون موسمية ومرتبطة بأوضاع سياسية معينة، فعلينا أن نعمل على مأسستها وتوسيع رقعتها وتكثيفها ودعمها كجزء أساسي من مجابهة سياسات الاحتلال، وإشراك أكبر عدد ممكن من مكونات وشرائح الشعب الفلسطيني بها، كل بحسب قدرته واستطاعته.
فالمقاومة الشعبية لها أشكال متعددة تسمح للجميع بالمشاركة في فعالياتها، وهنا لا بد من التأكيد على أهمية دعم حركات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وبخاصة حركة (BDS)، كإحدى أدوات المقاومة الشعبية السلمية والمؤثرة والموجعة، ووضع برنامج وطني يجعل من مقاطعة الاحتلال بكافة أشكاله ثقافة وطنية عامة، فالمقاطعة الشاملة للاحتلال يجب أن تستمر ويتم تعزيزها طالما بقي الاحتلال.
ولا بد من تفعيل الدور العربي في هذا الامر، وهذا يتطلب تهيئة الأجواء عربيا من خلال إزالة الخلافات أو التقليل من حدتها، سواء بين الدول العربية بعضها ببعض أو بين هذه الدول مع دول المحيط، وبخاصة مع تركيا وإيران، وأن يبنى النظام السياسي العربي بعيدا عن سياسات المحاور، بما يحقق المصالح العربية العليا، ويُبقي دولة الاحتلال هي أساس التوتر وغياب الأمن في المنطقة والاقليم.
ولا يمكن فصل الخطوات السياسية والدبلوماسية والحراك الشعبي عن الواقع الاقتصادي المُعاش، فالاقتصاد الفلسطيني يعاني من مصاعب شديدة نتيجة سياسات الاحتلال والتي منها القيود على التجارة والاغلاقات وحصار غزة، كذلك البيئة السياسية الملتبسة والتي يغلب عليها عدم اليقين، مما يحول دون قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تحقيق تنمية مستدامة وزيادة في معدلات البطالة وركود في نمو دخل الفرد إضافة إلى العجز المزمن في الموازنة العامة. إن هذا الحال يتطلب تغييرات في السياسات لتخفيف المخاطر وتهيئة بيئة أكثر حيوية لتنشيط التنمية وما يتطلب من مشاركة جادة وحقيقية بين القطاعين الخاص والعام لتحقيق هذا الهدف. ومن ناحية أخرى اعادة النظر في اتفاق باريس الاقتصادي بحكم أنه اتفاق مؤقت، والعمل على أن لا يكون الواقع الاقتصادي عبئا على الموضوع السياسي ومن المهم في هذا السياق تشكيل مجلس اقتصادي قادر على خدمة هذه السياسات.
وفيما يخص التهديد الأمريكي بقطع الأموال سواء عن السلطة الفلسطينية أو وكالة الاونروا حيث يمكن تعويضه من الأموال التي يمكن أن يتم جمعها من الدول العربية والإسلامية عِبر تشكيل لجنة تضم أعضاء من الحكومة والقطاع الخاص، تجوب هذه الدول لتنجيد الأموال، ويمكن أيضا الاستعانة بالبنوك المحلية وفق ترتيبات معينة تحفظ حقوق الجميع،
والاهم هو أن نكون نحن جميعا متشاركين في تحمل الاعباء والتبعات التي قد تترتب على هذا الوضع الاقتصادي من حيث قلة الموارد، فالمطلوب اتباع وتطبيق سياسات تقشف حقيقية في القطاعين العام والخاص، لكي يشعر المواطن بأننا جميعا في خندق واحد، ومصيرنا واحد، نتشارك في حمل الأعباء.
لا بد أن نرتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهنا وأن نتحمل مسؤولياتنا الوطنية والاخلاقية والتاريخية تجاه مشروعنا الوطني وتجاه مدينة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، وأن نعمل جميعا على ترجمة قرارات المجلس المركزي على أرض الواقع كنقطة مهمة ورئيسية في مواجهة سياسات الاحتلال ضمن استراتيجية جديدة بعيدة عن القيود التي فرضت علينا خلال ربع قرن مضى.