دفع الملك عبد الله الثاني خلال الأسابيع الماضية وعلى ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية بشعار “ الاعتماد على النفس”. وهو شعار كان ينبغي أن يرفع منذ سنوات وغايته أن لا يكون الأردن معتمدا على المساعدات والقروض والمنح من الدول الأخرى و إنما على قدراته و إنتاجه و مبادراته. والأهم من ترديد الشعار هو تنفيذه فعلاً والالتزام به؛ ما يتطلب من كل مؤسسة أن تتدارس بالتعاون مع الخبراء، وبكل جدية، ما هو البرنامج الذي يمكن أن ترسمه لنفسها في مدى زمني محدد حتى تساهم في الاعتماد على النفس على المستوى الوطني، وتصبح كمؤسسة والقطاع الذي تنتمي اليه ليس بحاجة إلى المساعدات، بمعنى أن الهدف هو احداث تغيير حقيقي في كل مرافق الدولة ومؤسساتها و عقلية موظفيها، بما فيها القطاع الخاص والأهلي والأكاديمي، حتى يتجذر مفهوم الاعتماد على الذات، ويصبح النمط السائد في السلوك و الثقافة المجتمعية ومدخلاً أساسيا في بناء الشخصية الوطنية في التعليم والإعلام وفي الإدارة الحكومية.
أما المنظور الكلي للاعتماد على النفس فإنه يتركز أساسا في “النهوض بالاقتصاد الوطني حتى تصبح الدولة غير معتمدة على الاخرين، وغير مضطرة للاقتراض المتواصل والبحث عن المساعدات والمنح والتمويل الأجنبي للمشاريع”. إن حقبة المساعدات من دول الإقليم قد تكون انتهت إلى غير رجعة، وهي بطريقة غير مباشرة أضرت بالوطن والمواطن؛ لأنها دفعت بالإدارات الرسمية إلى التراخي والتواكل، حتى سادت ثقافة الاعتماد على الغير على مستويات كثيرة.
وخلال الثلاثين سنة الماضية، كانت هناك جهود وطنية باتجاه التنمية بمفهومها العام، والإستجابة لمتطلباتها من بنية تحتية وخدمات وتعليم وصحة وتنظيم للمدن والقرى، وغير ذلك الكثير، ومع هذا فإن التقدم الحقيقي في الاعتماد على النفس اقتصاديا و ماليا من خلال بناء اقتصاد وطني قوي متطور و حديث وقادر على مواجهة احتياجات المجتمع المتزايدة، كان محدوداً، بل تراجع الاقتصاد بشكل خاص في السنوات العشرين الماضية. صحيح أن المنطقة لم تستقر ولم تتوقف فيها الحروب والصراعات والأحداث، الا أن ذلك لا يبرر هذا التباطؤ في النمو الاقتصادي الذي انعكس سلباً على كل شيء، وأهمها الحياة اليومية للمواطن والمتطلبات المالية للدولة.
ففي السنوات العشر الماضية تزايد الاستيراد و تراجع الإنتاج، و تراوحت معدلات النمو بين 2% إلى 3% بالأسعار الجارية، أي ما يقارب 0.5% إلى 1.5% بالأسعار الثابتة، في حين أن معدل النمو السكاني يزيد عن 2.5% ما يعني تراجعاً في دخل الفرد، وهذا أدى إلى تـهميش المحافظات، واتساع مساحة الفقر وارتفاع البطالة إلى 18.5َ%. فمثل هذا النمو لا يستطيع استقبال عشرات الآلاف من الجامعيين سنويا، أو توليد أكثر من 30 ألف فرصة عمل سنوياً، في حين أن المطلوب يتعدى 80 ألف فرصة سنوياً، وكلما ازداد الاستيراد من السلع والخدمات، تراجعت فرص العمل الجديدة خاصة مع الثورة الرقمية السائدة التي رفعت إنتاجية الدول الصناعية إلى مستويات غير مسبوقة.
والسؤال: لماذا لم تستطع خطط التنمية وبرامج التصحيح المالي لدينا، وفي الأقطار العربية، أن تمنع تفاقم المديونية واستمرار العجز في الموازنة و توقف الاعتماد على المنح والمعونات والقروض وكأنها طبيعة الأشياء؟ قد يكون هناك أسباب مؤسسية واقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، ولكن السبب الرئيس فيها هو “طبيعة الاقتصاد الوطني غير المؤهل للإفادة من العلم والتعليم وضآلة الريادية وغياب مشروع وطني للتغيير”.الإقتصاد ليس بمفهوم رأسمالي أو اشتراكي، بقدر ما هو بنية الاقتصاد وحداثته، ومدخلاته ومخرجاته من منظور انتاجي تكنولوجي و تماهيه مع الثورات الصناعية؛ ذلك أن الاشكالات المالية التي تعاني منها الدول، إذا استثنينا الفساد وسوء الإدارة، تعود بالدرجة الأولى إلى عجز الاقتصاد الوطني عن توليد الثروة والمال بالحجم الكافي للدولة وللأفراد بسبب ضعف الإنتاج السلعي وتدني الإنتاجية، واذا نظرنا إلى الاقتصاد الوطني نجد أنه “ اقتصاد ريعي تمنح فيه الدولة الوظائف (42% من القوى العاملة لدينا تعمل في الحكومة) والكثيرً من الخدمات مجانية او مدعومة، لعدم قدرة المستهلك على تحملها. وهو اقتصاد يتحرك بين التجارة والخدمات، إضافة إلى قطاع متواضع للصناعة وآخر للزراعة. هذا في الوقت الذي يتم فيه الاعتماد على استيراد السلع والخدمات الجاهزة بما يعادل 1500 دينار للفرد سنويا ليشمل استيراد كل شيء، من أبسط المنتجات إلى أعقدها، وبعجز تجاري بلغ ما يقرب من 10 مليارات دينار.
أن كل سلعة مستوردة تعني فرصة عمل في الدولة المصدرة،وفرصة ضائعة في الدولة المستوردة، وهكذا فإن مستوردات الأردن “القابلة للتصنيع محليا” قادرة على توليد 200 ألف فرصة عمل سنوياً؛ وهذا من شأنه تخفيض البطالة إلى أقل من 7%. ومن هنا، فليس من مدخل للتغيير وبناء القدرة الذاتية والاعتماد على النفس للدولة والمؤسسات والأفراد على حد سواء الا من خلال “التصنيع و الإقتصاد الإجتماعي”.
أي تحويل القطاعات المختلفة لترتكز إلى انتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية من خلال تكثيف مدخلات العلم والتكنولوجيا والإبداع في الانتاج سواء كان صناعياً أو زراعياً أو تعليمياً أو سياحيا أو علاجيا أو نقل أو غير ذلك. فالإقتصاد الصناعي او التكنولوجي فقط هو القادر على الإفادة من التعليم و استثمار العلم و الريادية. إن القيمة المضافة الصناعية في الأردن متواضعة و أدنى من المتوسط العالمي وتقع في حدود 900 دولار للفرد سنوياً، مقابل 1680 في تركيا و 10آلاف في سنغافورة و 16 ألف دولار في سويسرا. “إن التصنيع و الثورة الصناعية، أي تغيير وتحديث بيئة ووسائل وأنماط الإنتاج والإنتاجية هو الطريق الوحيد لإحداث التغيير الكلي في الإقتصاد والمجتمع والفرد والإدارة وفي التعليم والعلم والثقافة والسياسة والدولة بكاملها”.
وهنا يمكن الإشارة إلى النقاط الرئيسة التالية: أولاً: إن النمو الاقتصادي المضطرد وبمعدلات أعلى من النمو السكاني لا يتحقق الا بالتصنيع الكلي وتخفيض الاستيراد في جميع القطاعات، واحلال المنتجات الوطنية محل المستوردة، وهو العمود الفقري للاعتماد على النفس.
ثانيا: إن الاشكالات المالية من مديونية إلى عجز الموازنة إلى تمويل المشاريع التي تحرير السلع من الدعم إلى تحصيل عائدات مالية أضافية إلى الإنفاق على الخدمات و تنمية البوادي و الأرياف، لا طريق لمواجهتها الا من خلال اقتصاد صناعي إجتماعي منتج و متطور.
ثالثاً: إن الحديث عن الادخار والاستثمار والأوراق المالية والخصخصة و صناعة المال في اقتصاد غير صناعي، محدود الحجم محدود النمو محدود المشاريع، هو مجرد إعادة تدوير للثروة دون خلق ثروة جديدة. رابعاً: إن الدولة الحديثة التي يتطلع اليها المواطنون وتعمل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمفكرون على تحقيقها وتكررت في الأوراق النقاشية للملك، ما هي في الجوهر الا الدولة الصناعية الحديثة ذات المجتمع الصناعي التكنولوجي.ولا يمكن أن تتحقق حداثة الدولة دون حداثة الاقتصاد.
خامساً: إن اتفاقيات التجارة الحرة قد تم وضعها أساساً لتسهيل التجارة بين الدول المتكافئة أو المتقاربة، وبالتالي فإن تنفيذها بين دول غير متكافئة كدولة صناعية مثل تركيا ودولة تجارية مثل الأردن يعني قتل الصناعات الوطنية بسبب عدم التكافؤ كما هو الحال اليوم في آلاف الصناعات الوطنية المتضررة.
سادساً: إن ارتقاء التعليم وتوظيف البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والإبداع للإرتقاء بالمجتمع، والتواؤم مع سوق العمل لا يمكن أن يتحقق في مجتمع غير صناعي بسبب العلاقة الجدلية التفاعلية بين الانتاج والعلم والبحث العلمي والتعليم. ولا يوجد بلد في العالم لديه اقتصاد غير صناعي وفي الوقت نفسه يتفوق في العلم والإبداع والتكنولوجيا.
سابعاً: إن تغيير المجتمع وتحوله نحو الديمقراطية والمواطنة والمشاركة في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات، والانفكاك من المجتمع التقليدي ومن الانتماءات المذهبية والقبلية والطائفية لا يتحقق الا في المجتمع الصناعي المتقدم حيث يصبح الفرد سيد نفسه في صنع الثروة والمستقبل، وحيث تؤسس الحالة الصناعية لعقلية علمية واقعية و لثقافة جديدة.
ثامناً: إن الظروف التي تمر بها المنطقة وحالة عدم الاستقرار يجب أن تدفع للتوسع بالصناعات الاحلالية، وإنقاذ الصناعات المتعثرة، وتقليص الاستيراد، ومراجعة اتفاقيات التجارة الحرة والمناطق الخاصة، واعطاء الفرصة للمنتجات المحلية لكي تخرج إلى الأسواق الدولية.
إن الأردن لديه راس المال البشري، وهو أساس الثروة المعاصرة، ولديه المؤسسات العلمية والتعليمية ولدى أبنائه وبناته الخبرات والمساهمات المتنوعة، ولا ينقصه الا البرنامج الوطني للتصنيع، والإرادة السياسية القاطعة للوصول إلى المجتمع الصناعي والمجتمع المعرفي خلال المستقبل القريب بكل إمكانات العلم والتعليم والريادية.
إن الاعتماد على النفس ممكن، و سبقتنا اليه دول كثيرة صغيرة وكبيرة؛ ولكنه يتطلب برامج الدولة الدافعة، والمشاركة الشاملة، وحسن الإدارة، وانهاء الفساد، و الإيمان بالمستقبل.