صدر تقرير “هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي” الذي تضمن تصنيف الجامعات الأردنية، وعددها 32، دخل منها التصنيف 26 جامعة، و جاء التصنيف تماماً على نمط تصنيف الفنادق (5) نجوم و(4) نجوم و(3) نجوم و(2) نجمة و(1) نجمة . وكأن الجامعة مجموعة غرف وخدمات. و كان التقرير مفاجأة للكثيرين وفي المقدمة وزير التعليم العالي نفسه والعديد من رؤساء الجامعات والأكاديميين والخبراء لبنائه على كثير من الأخطاء المفاهيمية والفوضى الإجرائية والتناقض في النتائج، وعدم استيعاب تأثير الأحكام المتسرعة والمغلوطة على قطاع التعليم العالي. وهو أمر غاية في الغرابة، كيف تعمل مؤسسة حكومية بوعي أو من دون وعي على تشويه أداء المؤسسات الوطنية واعطائها درجات أو تصنيفات بعيدة عن الممارسة العالمية في هذا المجال، وكيف تطلق، ومنذ أول محاولة، أحكامها هكذا على جامعة تضم عشرات الكليات والأقسام والتخصصات وكأنها سلة واحدة.
هل الجامعات الأجنبية التي يدرس فيها أبناؤنا و بناتنا مصنفة عن طريق مؤسسات رسمية إلى درجات و نجوم في دولها؟ و هل تعترف هيئة الاعتماد بتلك الجامعات وتقبل شهاداتها على أساس نجوميتها ؟ و لماذا لا تصنف الهيئة الجامعات الأجنبية أيضا حتى يكون الطالب الاردني، وصاحب العمل فيما بعد، على معرفة بتصنيف الجامعة التي سيلتحق بها في الفلبين مثلا ؟ و ماذا يناظر درجة ال 4 نجوم في بريطانيا أو اوكرانيا أو السودان أو3 نجوم في تركيا أو اليونان مثلا حيث يذهب طلبتنا؟
وهنا لا بد من تبيان الحقائق التالية :أولاً: إن مفهوم التصنيف إلى درجات ونجوم لا يشكل النمط العالمي السائد، وليس هناك معايير متوافق عليها وطنيا أو دوليا بهذا المعنى الحرفي؛ لانه حكم قائم على مفهوم استاتيكي جامد، ويحمل إيحاءات غير موضوعية و أحيانا مسيئة، ولا يعبر عن مقارنة عادلة، في حين أن الجامعة مؤسسة ديناميكية متحركة يتغير نشاطها و إنجازها بل واهتماماتها من سنة إلى أخرى. فتسبق عددأ من الجامعات في مجالات أو تسبقها جامعات أخرى. ثانيا أن الأكثر شيوعا عالمياً في مقارنة الجامعات ما يعرف بمصطلح “التدرج” أو “التراتبية” ranking. بمعنى أي جامعات تأتي رقم (1) وأيها رقم (15) وأيها رقم 500 لهذا العام، و قد تتغير المواقع في العام الذي يليه، و كأن الجامعات في سباق، ودون إطلاق أحكام تضع الجامعات في منازل و تقسمها إلى فئات. ثالثا: إن المفهوم التراتبي هو الذي يخلق حالة التنافس بين الجامعات لأن كل جامعة تحاول أن تحسن موقعها أو ترتيبها بين الجامعات، وبالتالي فإن الجامعة تدخل حلبة التنافس برغبتها، أما التصنيف classification فإنه في المفهوم العالمي غالبا ما يتناول النوع أو التخصص أو الملكية، أو أي تصنيف آخر لا تترتب عليه تبعات قانونية أو أدبية. كأن يقال جامعات للدراسات العليا وأخرى للبحث العلمي وثالثة للتكنولوجيا وهكذا. والواضح أن هيئة الاعتماد اشتطت في التعامل مع عبارة “تصنيف مؤسسات التعليم العالي” الواردة في النظام. رابعا: إن الجامعات تدخل في المنافسة التراتبية برغبتها، بمعنى أن السباق التراتبي لا يفرض عليها؛ إذ ليس من العدل ولا من المنطق أن تضع جامعة مضى على إنشائها 30 أو 50 أو 60 سنة في تصنيف تتنافس فيه مع جامعة عمرها 3 سنوات أو 5 سنوات إلا إذا استعدت الجامعة الجديدة لذلك، ولدينا في الأردن جامعات عمرها 60 و 40 و 30عاماً وأخريات عمرها أقل من 5 سنوات. خامسا: إن الجامعات العالمية لا تحتل بالضرورة المكان الأول أو الرابع مثلا في كل تخصصاتها؛ إذ غالبا ما تركز الجامعات على تخصصات معينة مثل ما ركزت هارفرد على الاقتصاد والأعمال، في حين ركزت MIT على الهندسة والتكنولوجيا، وهذا في مصلحة القطاعات الاقتصادية والإجتماعية للدولة، ولذا فإن فكرة تصنيف الجامعة بكاملها إلى فئة 5 نجوم أو 3 نجوم يهمل التنوع والإختلاف و مجالات التركيز والتفوق في التخصصات والذي هو أساس التميز للجامعات في العالم. سادسا: في أوروبا وأمريكا وغيرهما نلاحظ أن المؤسسات التي تقوم بالتصنيف هي مؤسسات أهلية من القطاع الخاص، وتكون معاييرها معلنة، وتدخل الجامعة باب التراتبية إذا اقتنعت بعدالة تلك المعايير في قياس أدائها ومقارنتها مع الجامعات الأخرى؛ بمعنى أن التراتبية تقوم أولا على المواضيع والتخصصات وبفترة لاحقة على الصورة الكلية؛ لأن الطالب حين يلتحق بتخصص معين ومحدد فإن ما يعنيه بالدرجة الأولى هو ذلك التخصص، فيذهب إلى الجامعة أو الكلية التي تتميز بالتخصص المطلوب، بغض النظر إذا كانت التخصصات الأخرى مختلفة المكانة. سابعاً: إن الجامعات تتفاوت في اشياء كثيرة، كتاريخ الإنشاء،واعداد الكليات،وأعداد التخصصات،والدرجات العلمية التي تمنحها، وأعداد الأساتذة والبيئة الاقتصادية الاجتماعية وأعداد الطلبة وحجوم مكتباتها، وتعدد مرافقها. وبالتالي فليس من الممكن وضعها جميعها في حزمة واحدة أو سلة واحدة ومقارنة هذه السلة بالسلال الأخرى، بمعنى أنه حين يكون القاسم المشترك غائبا فإن المقارنة والتصنيف يكون زائفا. ثامناً: إن اطلاق نتائج “التصنيف الفندقي” للجامعات منذ السنة الأولى للانخراط في هذه العملية المشوشة، وعدم إعطاء هيئة الاعتماد نفسها فرصة لتدارس الموضوع بكامله مع الجامعات للتأكد من صحة توجهاتها، هو نوع من التسرع والارتجال من ناحية مهنية، وهو اضرار بالمصالح الوطنية من ناحية اقتصادية وتعليمية. وتقضي الحكمة الإدارية والشعور بالمسؤولية أن تعطي الهيئة نفسها فرصة للتعرف على نقاط الضعف في توجهاتها لتصحيحها، وبالتالي إعطاء النتائج، بعد تصحيح المعايير والافتراضات، فترة تجريبية لا تقل عن 5 سنوات قبل الالتزام بها. تاسعاً: لم تقدر هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي مدى الضرر الذي يحدثه هذا التصنيف المتسرع غير العلمي وغير المهني على سمعة الجامعات الأردنية، بل وسمعة التعليم العالي في الأردن، ولم تدرك الأذى الناجم عن هذه التعميمات التي كثيراً ما تنزلق فيها. كيف سينظر الطالب الوافد إلى الجامعات الأردنية ؟ هل سيركز على جامعة 5 نجوم أو 4 نجوم أو 3 نجوم؟ و هل عليه أن يترك الجامعات ذات النجمة الواحدة. عاشراً: لم تقدر هيئة الاعتماد كيف ستقيم الدول الأخرى الشهادات الصادرة عن الجامعات الأردنية. هل شهادة الـ 5 نجوم مثل شهادة النجمة الواحدة ؟وأي عوائق سوف تعترض توظيف الخريجين إذا كانت جامعاتهم مصنفة حسب النجوم الفندقية؟ وهل سيتغير التصنيف من سنة إلى اخرى؟ و كيف سيتابع أولياء الأمور والدول الأخرى و أصحاب العمل ذلك؟. حادي عشر: يبدو أن الهيئة لم تتنبه إلى أنها ستكون عرضة للمقاضاة من أي جامعة لحق الضرر بسمعتها بسبب هذا التصنيف المتسرع، خاصة وأن الأساس القانوني للتصنيف بهذه الطريقة تعتريه الشكوك.
لقد أهمل هذا التصنيف المبتسر الركن الأساسي الثالث في مهمة الجامعات ألا و هو” خدمة المجتمع و التشبيك مع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية”، كما أعطى هذا التصنيف نتائج متناقضة لا متسع لتفصيلها، ولم يأخذ بعين الاعتبار أن الجامعات ليست حرة في قراراتها ولا متساوية الحرية سواء فيما يتعلق بالأساتذة غير الأردنيين أو الطلبة الوافدين أو الدعم الخارجي للمشاريع و الأبحاث أو حركية الأساتذة أو التبادل الطلابي والأكاديمي.
وفي النهاية :هل هناك رغبة غير معلنة في إفشال قطاع التعليم العالي في الأردن بعد أن حقق نجاحات مرموقة في المنطقة؟ فهناك قانون التعليم العالي وقانون الجامعات الذي لا يستقر أحدهما على حال، وهناك التدخلات المستمرة وغير الدستورية في شؤون الجامعات إبتداء من مجلس الأمناء وأعمار اعضاء هيئة التدريس وانتهاء برؤساء الأقسام ومساعديهم. وهناك الحيلولة دون استقلال الجامعات إداريا وماليا وأكاديميا، وهناك تقييم رؤساء الجامعات خلافا للأسس التي تم تعيينهم بموجبها، و هناك “التصنيف الفندقي” المتعسف، وهناك أمتحان الكفاءة الذي يعطي نتائج مخالفة لنتائج التصنيف بل و متضاربة معها، وهناك التدخلات في التفاصيل والتقليل من شأن التعليم العالي حين تضع هيئة الإعتماد 62% من الجامعات الأردنية بتصنيف 3 نجوم و اقل. كل هذه وغيرها ممارسات تزعزع التعليم العالي و تدفعه للجمود والنمطية وتضعف من فرص الإبداع و التجديد.
إن ما تقوم به هيئة الاعتماد هو ارباك وتشويه لسمعة التعليم العالي وللمؤسسات الوطنية الأردنية، وهو ارباك يقوم على الانغلاق في التفكير، والتواضع في استيعاب الأبعاد المختلفة للمؤسسات الجامعية، وعدم إكتراث بالممارسات المتعارف عليها عالميا، ما يؤدي إلى الإضرار بالمصالح الوطنية.
فهل تتحرك الحكومة، خاصة وأن التصنيف جاء غير مكتمل ومخالف لما اقره مجلس الوزراء الذي وافق على التصنيف حسب المواضيع ؟ من الضروري أن تبادر الحكومة فورا فتطلب من هيئة الاعتماد سحب تقريرها، والاعتذار عن التسرع، وتطلب منها التوافق مع الجامعات على معايير التراتبية وكيفية الالتحاق بها والتوفيق مع الجامعات المعترف بها، وبذلك تفتح باب المستقبل فعلاً لتحسين النوعية ورفع مستوى الأداء.
تصنيف الجامعات…. تسـرع وارتباك وقصـور/ د. إبراهيم بدران
9
المقالة السابقة