جاء تقرير “اللجنة الاستشارية الدولية” الخاصة بالبرنامج النووي الأردني والتي تضم مجموعة من الخبراء غير الأردنيين، مع الاحترام، ليفتح الموضوع برؤية مختلفة، ويثير تساؤلات حول الأولويات. ففي تقييمها للمراحل التي قطعها البرنامج أشارت “اللجنة الاستشارية” الى جملة من المسائل تتطلب اعادة النظر بالموضوع النووي بكامله، واعادة النظر في الرؤية الاستراتيجية للدولة و لهيئة الطاقة النووية. وسنبدأ هذه المسائل من نقطة النهاية رجوعا الى البدايات وعلى النحو التالي: أولاً: أكد تقرير اللجنة ضرورة “مراجعة الحكومة أو وزارة الطاقة (وليس هيئة الطاقة النووية) لخليط الطاقة الذي يمثل مصادر الطاقة المختلفة ونسبة كل مصدر في الطاقة الكلية، وبالتالي ضرورة اعادة احتساب الكلفة المترتبة على البدائل، بما فيها مصادر الطاقة المتجددة، نظراً للانخفاضات الضخمة التي وقعت في كلفة الطاقة المتجددة منذ عام 2010، وبالمقابل الارتفاعات في كلفة الطاقة النووية، وذلك بهدف “زيادة أمن لطاقة وتخفيض الكلفة في اطار ما يتحمله المستهلك”. وهذا يعني مراجعة شاملة للجدوى الاقتصادية لمشروع الطاقة النووية في اطار البدائل الأخرى من منظور وطني. ثانياً: أكد التقرير أن “البقايا و المخلفات النووية تتطلب معالجة محلية، بــل ومخازن أرضية توضع فيها . ولا يمكن الاعتماد على تصديرها الى روسيا “ كما تفترض هيئة الطاقة النووية؛ مايستدعي اجراءات تكنولوجية ولوجستية وهندسية معقدة، اضافة الى تأثيرها على ارتفاع كلفة الكهرباء،واشكاليات التلوث والوقاية من التسرب الاشعاعي. ثالثاً: أكد التقرير على “ أن تعدين اليورانيوم واستخلاصه على نطاق صناعي يجب أن يكون بمعزل عن قرارات السير بالمحطة النووية أو عدمه؛ لأنهما موضوعان مختلفان جداً. وهو ما كان الكثير من الخبراء الاردنيين يؤكدونه و ينبهون اليه منذ سنوات. رابعاً : أكد تقرير اللجنة الاستشارية “ اشكالية الأمان النووي والمتطلبات المتشددة التي نشأت بعد حادثة فوكوشيما”، والتي يقال أن شركة “روس اتوم” الروسية التي سوف تبني المحطة لا تلتزم بها بشكل كامل، في حين تصر عليها الممارسات الدولية، ووكالة الطاقة الذرية الدولية على وجه الخصوص. خامساً: طلب تقرير اللجنة الاستشارية من هيئة الطاقة النووية “ حسم المفاوضات مع شركة “رؤس اتوم” المنتجة للمفاعلات الروسية الضخمة للتأكد من كيفية التعامل مع مسألة التمويل” الذي لم تعطه الهيئة الاهتمام اللازم، و ما يترتب على التمويل من ارتفاع كلفة الكهرباء المنتجة، اضافة الى ما سيترتب على المشروع النووي من مديونية عالية على الأردن، حتى لو قامت بتمويل المشروع شركات أجنبية، حيث ستعتبر كلفة هذه المحطات ديونا سيادية، تحاول هيئة الطاقة النووية الالتفاف حولها و تحاشي الاشارة اليها. ومجمل هذه التوصية كان قد اثارها الخبراء الاردنيون ولجنة الطاقة في البرلمان السابق وقد أشرنا اليها في عدة مقالات ومناسبات .سادساً : ان المفاعلات الصغيرة التي يتم انتاجها على شكل وحدات نمطية متشابهة في المصانع، ولا تبني في المواقع كما هو الحال في الوحدات الكبيرة، لاتزال حديثة وغير مثبتة الاستعمال في الدول والظروف المختلفة. وهي مفاعلات مصممة خصيصاً للمناطق المحصنة أوالمعزولة أو للغواصات والسفن الكبيرة، وليس لاستعمالها على الأرض وبين السكان وربطها بالشبكة الكهربائية، ونشرها بالعشرات، وكأنها محطات كهرباء تعمل بالديزل، وخاصة في بلد متواضع الامكانات التكنولوجية. وهذا ما تتجاهله هيئة الطاقة النووية. سابعاً: طلب تقرير اللجنة الاستشارية من الهيئة أن تتحول من الانهماك في “ دراسة المفاعلات الصغيرة (جدا) الى مناقشة الشركات المنتجة لهذا المفاعلات، للوصول الى فهم أفضل للتكنولوجيا، ومتطلبات الأمان، والتحديات الفنية والاشعاعية والاقتصادية التي تواجهها”. وهذه توصية تبين ضعف الأساس الذي تنطلق منه هيئة الطاقة النووية الأردنية،حين تسرعت قبل اسابيع ووقعت اتفاقية مع شركة اميركية لتوريد هذه المفاعلات الصغيرة.
ثامناً : يقتضي المنطق العلمي و الاداري السليم أنه: اذا كان لا بد من المحطات النووية، فان البداية ينبغي أن تكون بالمفاعلات المتوسطة من (350 الى 600) ميغاواط .وهذه الحجوم قابلة لأن تلائم الشبكة الاردنية والاحتياجات المحلية، و قد أثبتت كفاءتها و نجاعتها في عدد من الدول؛ ولكن هيئة الطاقة النووية تأخذ موقفا متطرفاً: “البدء بالضخم جداً، ثم النزول الى الصغير جدا.” فلا هذا صحيح، ولا ذاك صحيح .تاسعاً: يكشف تقرير اللجنة الاستشارية عن “طلب دراسة لاقتصاديات المفاعلات الصغيرة “ باعتبار هذه المفاعلات كما تدعى اللجنة ملائمة جداً للأردن من حيث الشبكة، وتوزيع السكان، ومصادر المياه”. وهو ما لا نتفق معه أبدا، ناهيك أنه نمط غير مستعمل في أي بلد فيه محطات نووية. نقول اذا كان الأمر كذلك، فما هو المبرر للقفز على المفاعلات الكبيرة جدا؟ والابتداء بها بكل اعبائها المالية والاقتصادية والامنية واللوجستية التكنولوجية؟ عاشراً : ان توجه هيئة الطاقة النووية نحو بناء منظومة للطاقة النووية الأردنية تبتديء بمفاعلات ضخمة، ثم تدعم بزيادة مفاعلات صغيرة منتشرة هنا و هناك، وكأن مساحة الأردن بمقدار روسيا أو كندا أو الصين أو استراليا، فهذا نمط لم تستعمله أي دولة من الدول التي لديها محطات نووية. اذ إن بديهيات الهندسة والتكنولوجيا والاقتصاد تفترض البدء بالوحدات الصغيرة لاكتساب الخبرة ثم التدرج نحو الوحدات الكبيرة، خاصة وان الشبكة الكهربائية الأردنية متواضعة الحجم ولا تزيد عن 10% من الشبكة المصرية أو 5% من الشبكة الايرانية والتي بدأت كل منهما بمفاعلات بحجم 1000 ميغاواط وهو الحجم الذي ستبدأ به الأردن .
و رغم تحفظاتنا على بعض ما ورد في التقرير، الا أن تقرير اللجنة الاستشارية هام؛ لأنه وبقراءة استراتيجية معمقة و من منظور وطني و قراءة ما بين السطور، يكشف حالة من ضبابية الرؤية عند هيئة الطاقة النووية، وانسياقها في اتجاهات غير صحيحة علميا واقتصاديا واستراتيجيا و سياسيا. نعم، فلا علاقة لتعدين اليورانيوم بالمحطة النووية، ولا تقبل أي دولة أن تستقبل النفايات النووية من دولة أخرى و تجعل تربتها و مياهها عرضة للتلوث، ولا تستطيع دولة نامية أن تحصل على مشروع تتراوح كلفته بين 10 الى 15 مليار دولار دون أن يكون ذلك جزء من المديونية التي عليها مواجهتها، ولا ادارة في دولة نامية صغيرة متواضعة الامكانات تقفز الى الطاقة النووية وتتردد في الطاقة المتجددة و استنفاذ كل امكاناتها، وتتراخى في تركيب وحدات شمسية للاستهلاك المنزلي الذي يستنفذ 45% من مجمل الكهرباء المولدة و ينتشر في 750 ألف وحدة سكنية ويستفيد منه المستهلك مباشرة، ولا ادارة تغض النظر عن تطوير قطاع النقل الذي يستهلك 45% من فاتورة الطاقة الكلية لتذهب الى الكهرباء النووية التي لن تغطي في أفضل الأحوال أكثر من 16% من فاتورة الطاقة، ولا ادارة في دولة شحيحة الموارد المائية تحرم قطاع الزارعة من 50 الى 75 مليون متر مكعب سنويا من المياه المعاد تدويرها، والذي هو بأمس الحاجة اليها لتستعملها في تبريد المفاعلات النووية التي يمكن أن تحل بدائل محلها، ولا ادارة تتغاضى عن الاجابة العملية على كيفية توفير مياه بكميات غير محدودة في حالة الكارثة النووية، ولا ادارة تقيم مشروعا غاية في الخطورة الاستراتيجية على امل تصدير الكهرباء للجوار في منطقة تغمرها الاضطرابات والنزاعات والحروب والتطرف والارهاب والتدخلات الاقليمية والخارجية.
وما يأمله كل مواطن أن يتم استيعاب ما ورد في تقرير اللجنة الاستشارية بعمق و مرونة، من الدولة بمؤسساتها المختلفة، والذي هو دعوة قوية ولكنها مهذبة و دبلوماسية وغير مباشرة لاعادة النظر في موضوع المحطات النووية بشكل كامل. و قد تكون الاجابة في استخدام بدائل الطاقة المتجددة والغاز والصخر الزيتي مع الاستمرار باكتساب الخبرة العلمية والتكنولوجية النووية . أما المحطات النووية فيصار الى تأجيلها لمدة 20 سنة، أو تناسيها كلية، والافادة من التكنولوجيات الجديدة القائمة والقادمة في الطاقة المتجددة والمصادر المحلية والغاز، فذلك هو المستقبل الذي تتحرك الدول المتقدمة باتجاهه.
العودة إلى البداية … في الطاقة النووية/ د. إبراهيم بدران
20
المقالة السابقة