لا مكان للقيم الإنسانية ولا لما يفرضه احترام القانون الدولي، ولا حتى لأصول التعامل بين الدول، في إدارة دونالد ترامب وفي سلوك هذه الإدارة مع العالم. الزبائنية التي تتحكم بالعقل الاستثماري والتجاري للرئيس الأميركي، هي نفسها التي تدير اليوم سياسة أميركا الخارجية. كما كشفت التصريحات الفضائحية التي أطلقها هو ومندوبته في الأمم المتحدة. تخلّت نيكي هايلي عن أبسط أصول اللغة الديبلوماسية في مخاطبتها زملاءها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مهددة بتسجيل أسمائهم تمهيداً لمعاقبتهم، إذا لم يصوّتوا كما تريد، ما يذكّر بأسلوب مخاطبة الناظر لتلاميذه في ملعب المدرسة، إذا أساءوا السلوك! وفي أوضح إشارة إلى الابتزاز المالي قالت لهم: عندما نقدم مساهمات مالية للأمم المتحدة، فإننا نتوقع أن نحظى بالاحترام، والأسوأ أننا مطالبون بالدفع في مقابل عدم احترامنا!
في نظر هايلي ورئيسها أن «احترام» أميركا يفرض الخضوع لمشيئتها ولقراراتها مهما فعلت. وإذا رأت الولايات المتحدة أن قرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو قرار»سيادي» على رغم أنه يخالف القرارات الدولية المتعلقة بمصير هذه المدينة، فإن على الدول الأخرى أن تحترم وأن تركع. لكن أكثرية دول العالم لم تفعل ذلك، ولم يبقَ إلى جانب ترامب ومندوبته سوى بضع جزر في المحيط الكاريبي، كما أن دولاً أخرى، مثل كندا، كانت مستعدة للتصويت ضد القرار، لكنها غيرت رأيها وامتنعت عن التصويت، رداً على لهجة التعالي والغطرسة الأميركية.
لهذا فنتيجة التصويت في شأن القدس في الجمعية العامة، التي كشفت عزلة إدارة ترامب على الساحة الدولية، ليست انتصاراً للقدس وحدها، على رغم الأهمية الاستثنائية لهذا التصويت. هذه النتيجة أظهرت أيضاً أن معظم العالم ما زال متمسكاً بضرورة احترام القوانين الدولية التي ترعى العلاقات. من أبسط هذه القوانين أن أيّ دولة، ولو كانت دولة كبرى، لا يحق لها بمفردها أن تتذرع بحجة السيادة لتخرق هذه القوانين. وباستثناء الدول العربية والإسلامية، التي تمثل القدس بالنسبة إليها رمزاً سياسياً وطنياً ورمزاً دينياً، فإن عدداً من الدول الأخرى، وفي مقدمها الدول الأوروبية، اختارت التصويت ضد دونالد ترامب، كرسالة بأن القانون الدولي له حرمة، كما قرارات مجلس الأمن المتعاقبة بشأن القدس، والتي تحول دون التفرد من أي جهة، بما فيها إسرائيل، بتقرير مصير المدينة.
يبقى الآن التعامل مع ارتدادات التصويت الأميركي على علاقات واشنطن مع حلفائها العرب والمسلمين، كما مع معظم دول الاتحاد الأوروبي (باستثناء هنغاريا وتشيخيا) التي عارضت الاعتراف المنفرد بالقدس عاصمة لإسرائيل. كما يبقى التعامل مع ارتدادات العقوبة الأميركية على الأمم المتحدة نفسها. فقد بلغ حجم المساهمة الأميركية في موازنة المنظمة الدولية في العام الماضي 10 بلايين دولار، ما يشكل خمس الموازنة العامة. فضلاً عن بليونين ونصف بليون دولار هي مساهمة الولايات المتحدة في عمليات حفظ السلام التي تقوم بها القوات الدولية.
وإذا كان يفترض أن يكون الرد المالي هو مساهمة دول العالم الغنية والقادرة في تعويض المساهمة الأميركية وتلقين واشنطن درساً أنها لا تستطيع أن تشتري العالم بأموالها، فإن الدرس السياسي يجب ان يكون ما اقترحه الموسيقي اليهودي العالمي (والتعريف الديني له معناه هنا) وحامل الجنسية الإسرائيلية دانيال بارنبويم عندما دعا، (في مقال في صحيفة «الغارديان» البريطانية) كرد على هوج ترامب وقراره الاعتباطي، إلى اعتراف عالمي بدولة فلسطين، وبعاصمتها، القدس الشرقية.