عروبة الإخباري – الله أكبر .. إنجازك المسرحي يا أحمد أبو حليوة بالأمس أبكاني، لأنّ المشاهد الحية المتتالية شدّتني شداً قوياً أعاد لقلبي قوة دقه.
كانت المسرحية في غاية الروعة والتشويق، إذ كيف استطعتَ أن تُجسد الأفكار، وتصنع لها الأقدام لتسير عليها، والعقول لتهتدي بها.
على باب مسرح مركز الملك عبد الله الثاني الثقافي في مدينة الزرقاء، تجمهر عدد كبير من المثقفين والأدباء والفنانين، بانتظار بداية عرض مسرحية في عرضها الثاني للقاص والأديب أحمد أبو حليوة.
“أبو أحمد بلال.. قصة فلسطيني وحكاية شعب” جاءت هذه الاحتفالية في أيام تنتظرنا فيها فلسطين بعد أن اغتصبت في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع الجميع، حين تمسّكنا بالثورة البيضاء والسلام المزعوم.
كان اللافت في العنوان العريض قضية فلسطين، قضية هذا الوطن، وقيمة ما قدّمه أحمد أبو حليوة في هذا العمل، يكمن في الجديد الذي عرضه بأنّ قاصاً يعرض قصته القصيرة بأسلوب إبداعي مختلف، حيث جسّد شخوص العمل وهو أحد أبطاله الحقيقيين، بقدرة هائلة وإتقان مقنع، أجبر الجمهور على متابعة كلّ كلمة وجملة وتغيير في ملامح وتعابير وجهه.
والظاهر أنّ إبداعه لم يأتِ كردة فعل آنية، ولكنّه تبلور وتخلّق منذ شاهد والده لأول مرة نهاية الثمانينيات بعد عقد ونصف من الحرمان والفراق، حيث رأى فيه مثالاً حيّاً لنكبة ونكسة فلسطين ومعاناة اللجوء ومرارة الشتات، وكذلك الإيمان بالتضحية والكفاح وعدالة القضية والحق بالعودة.
فـ “أبو أحمد بلال ” شخصية العمل الرئيسة، مناضل عنيد حمل أمانة التاريخ الوطني والقومي والإسلامي، وحمل عبء تقدمه في العمر وشيخوخته ووحدته، وكذلك همّ أخواته الثلاث منذ صغرهم، ووالدته الأرملة حين واجه منذ طفولته أكثر الظروف قساوة وأشدها مرارة.
كيف لا يكون “أبو أحمد بلال” عنيداً وقد سقط من سقط، وهرب من هرب، وهو الذي راهن على الأمة وتاريخها وشرفائها، لا على أموال العرب ونزواتهم وتبعيتهم.
وكيف لا يكون عنيداً أيضاً وفوق أرضه سقط شهداء من بني عشيرته، أصرّوا أن تعانق رقابهم ودماءهم ثرى الأرض الطاهرة المعجونة بالكدّ والعرق والحبّ.
تظهر شخصية الابن أحمد، وهو يقول: إن “أبو أحمد بلال” كغيره من الأبطال الذين دفعوا فواتير انتمائهم للعروبة ولغدها وشرفها، فهم لا يستطيعون العيش دونها، بل حمل مشهد جثمان والده المسجى رسائل عديدة، وهو ينهض من الموت رمزاً للشعب المقاوم المتمسك بحقوقه على إيقاع الإنشاد الجماعي لموطني.
قصة فلسطيني وحكاية شعب.. لحظات صعبة استوقفتني فيها مشاهد القتل والتشريد والظلم والحزن، واستوقفني حجم الصعوبات والعثرات الذي واجهها هذا الرجل، واستوقفني طعم الغربة والآلام وهي تطغى على (أبو احمد بلال)، الذي بقي مؤمناً بالأمل وبالمواجهة وقريباً منها.
كان الجمهور يقف مع كلّ صوت آذان، ينظر بعين على المرحلة والمعاناة القادمة، والأخرى على الأداء المتقن لأحمد، الذي أظهر لنا حجم الفرح القليل في عمر (أبو أحمد بلال)، الذي تعاطف معه الجميع، ليعم دفء المشاعر على عميق الأحزان، بعد أن لم يتمكن حتى الخجل من منع الدموع من الظهور على وجوه عدد لا بأس به من الحضور، رجالاً ونساءً، والذي منهم من بلع ريقه وأخفى خفقان قلبه، ولكن سرعان ما ظهرت إنسانيته، وهو يصعد على خشبة المسرح فور انتهاء العرض، مهنئاً بكلّ حرارة وصدق نجاح هذا العمل، والثناء على سمو طرحه ورسالته، وتقديم الشكر لمن كان خلفه من جنود النجاح الذين أبدعت أناملهم في رسم الصورة وتقديم المشهد بأبهى وأصدق حلة، أرادها المبدع أبو حليوة متواضعة عفوية دافئة صادقة، هو ورفاقه الذين شاطروه هذا النجاح وصنعوه معه، وهم عازف الناي الفنان مفيد عبيدات وعازف العود الفنان طه المغربي وعازف الجيتار الفنان يزن أبو سليم، حيث تألق الأخير في العزف والغناء، يضاف إلى ذلك الإطلالة البهية القصيرة في نهاية العمل للكاتبة الجميلة أمل عقرباوي، التي وارت جثمان “أبو أحمد بلال” الكفن، وفي ذات الوقت منحته هذه المسرحية الخلود، التي قدّمها أحمد بلا شك إجلالاً لسيرة والده وروحه الطيبة، وتقديراً وإهداء لرفاقه من المناضلين وإخوته الثائرين الذين شاركوه الدرب والحلم، فكانوا جيلاً كاملاً من التضحية والنبل والوفاء.
الله أكبر .. الله أكبر.. ليعلم الفاسدون القتلة الصهاينة الأوغاد الذين لوّعوا أطفالنا ونساءنا وعذبوهم دون جريرة أو ذنب، أنّ أعمالهم لن تمرّ، وأنّ شعبنا وأصالته وإرادته وخياراته أقوى من كل مؤامراتهم، وأقوى من دفعهم لنا كي نستسلم، أو ننظر لهم بعين الرجاء، أو حتى نعتذر عن الحق الذي تمسّكنا به كما تمسّك به أبو أحمد بلال.
“أبو أحمد بلال “.. قضية وطن / ميعاد خاطر
17
المقالة السابقة