تجاوز الملك في قيادة الدبلوماسية الأردنية سقوف ردود الفعل التقليدية، وأصبح الأردن “رأس الحربة” في الدفاع عن القدس وفي تشكيل موقف دولي وإقليمي يسعى إلى انتزاع اعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وهنالك اجتماعات وجهود قادمة سينجم عنها وفد عربي يزور العواصم الأوروبية والآسيوية لبناء الموقف المطلوب!
الموقف الإقليمي العربي هشّ للغاية، غير مقنع، ذلك ما بدا واضحاً في حجم ومستوى الحضور في قمة إسطنبول الأخيرة للتعاون الإسلامي، ولا يمكن الركون إليه في مواجهة الموقف الأميركي، بينما موقف كل من إيران وتركيا، بالرغم من قوته، إلاّ أنّه مبني على حسابات إقليمية تأخذ طابعاً تصعيدياً من دون النظر إلى النتائج الواقعية المطلوبة، من أجل عدم الوصول إلى تدهور جديد في مسار القضية الفلسطينية.
ما يقلق هو أنّ “الكوما السياسية” العربية تجاه القدس لا تنطوي على تقاعس، بل على خلاف في القراءات والتقديرات لأهمية القضية وأولويات العرب ومواقفهم. وربما هذه القضية هي التي أقلقت الشارع الأردني مؤخراً، وعزّز هذه القناعة مقال خطير للباحث الأميركي روبرت ساتلوف نشره في موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مؤخراً، ويشي بأنّ إدارة ترامب لا تهتم بردود الفعل الراهنة، التي من الواضح أن الأردن يقف وراءها، وأنّ هنالك تصوّراً واضحاً لديها عن الموقف الرسمي العربي الآخر الحقيقي!
معنى ذلك أنّنا اليوم نكاد نكون بلا حلفاء تجاه موضوع القدس، الذي يمسّ الأمن الوطني الأردني، ليس فقط لرمزية المدينة وأهميتها لدى الهاشميين، بل لاعتبارات استراتيجية وسياسية وأمنية أخرى.
ليس ذلك فحسب بل الخلافات مع “الحلفاء” تكاد تصل إلى أغلب ملفات إدارة السياسات الخارجية، بما في ذلك الموقف الأردني من الاستقطاب الإقليمي الحالي. ومع قرار ترامب الأخير وردّ الفعل الأردني، فإنّ ذلك يعني أيضاً توتراً مع الرئيس، بالرغم من العلاقة القوية التي تربطنا بالمؤسسات الأميركية، لكن الرئيس الحالي ينسج خيوط سياساته الخارجية بعيداً عن القنوات الرسمية ويختار حلفاء إقليميين أقرب إلى رؤيته، التي لا ينسجم الأردن مع أغلبها!
مهم جداً وضروري أن يفهم الشارع الأردني هذه المعطيات الخطيرة، فالمواقف السياسية الأردنية ليست بلا كلفة ولا أثمان، وهذا ما نراه حالياً في انقطاع المساعدات الخارجية واقتصارها على المساعدات الأميركية المعروفة والتقليدية، في وقت يعاني فيه الأردن من أزمة مالية كبيرة.
ليس مطروحاً لدى “مطبخ القرار” مقايضة مواقفنا في المنطقة تجاه القدس والملفات الأخرى بالمساعدات المالية، ما يعني أنّ علينا فعلاً الاعتماد على أنفسنا، وهذا يضعنا بالكلية تحت رحمة صندوق النقد الدولي، والأخبار السيئة تتمثل في أنّ هنالك خلافات حادة بين الحكومة والصندوق الذي يصرّ على تعديلات معيّنة على مشروع القانون المعدّل لضريبة الدخل، بما يصل إلى 500 دينار للفرد و1000 دينار للأسرة شهرياً، وهو ما ترفضه الحكومة حتى اللحظة.
الخيارات محدودة وصعبة، وإذا أردنا أن نلتزم بخطّ سياسي خارجي صلب في حماية الأمن الوطني وفي دعم الفلسطينيين وفي الإصرار على مواقفنا، فعلينا أن ندرك بأنّ “المعادلة الداخلية” مهمة جداً، وأن نصمد في الأزمة المالية والاقتصادية الحالية، لأنّ الصدام مع صندوق النقد في اللحظة الراهنة له عواقب وخيمة جداً على الاقتصاد، ثم على المواطنين بالضرورة في الأمدّ القصير!
ربما يتجنب المسؤولون وضع المعادلة في هذه الصيغة لعدم إشاعة القلق، لكن الظرف الدقيق والحسّاس يقتضي أن يفهم المواطن المرحلة بوضوح شديد أولاً، وتوسيع قاعدة الشراكة السياسية في تحمل المسؤولية لعبور هذا المنعرج ثانياً.