عند استعراض حالة التعليم في المنطقة العربية، ونحن منها، نلاحظ حالة الرتابة والنمطية والتراجع، وبشكل خاص في مستويات الخريجين،وقدراتهم المحدودة على التفاعل مع متطلبات سوق العمل، أو التعليم العالي،أو التجديد والإبداع، أو المشاريع الريادية . صحيح أن هناك دائما طلبة متميزون،ولكن المهم أن لا يكون هذا التميز نتيجة للمهارة و الجهد في حفظ المعلومات، والأهم بطبيعة الحال هو قدرات و تحصيل الجسم الطلابي بمجمله. هناك توافق تقريباً ومنذ سنوات على أن التعليم في وضعه الحالي يقوم على تحشيد المعلومات والحفظ والتلقين، والأخذ المباشر من المعلم أو الأستاذ، والاستظهار وإعادة المعلومة كما هي عند الطالب. و لا يقوم على التفكير والتحليل والتركيب و النقد.
ومن جانب آخر، فإن الحاضر الذي نعيشه، والمستقبل الذي تسرع الأجيال نحوه، يتطلبان مقاربات مختلفة عن التعليم السائد اليوم. يتطلبان “تعليما و تعلما” يركز على بناء الشخصية الوطنية الإنسانية المستقلة، والمعتمدة على إمكاناتها التي تم تنميتها، وعلى العقل الناقد المتمكن من مهارات التحليل والتركيب . كما أن الأجيال الصاعدة مطلوب منها الإبداع والتجديد المتواصل من أجل البقاء، وتحقيق الذات. فالتنافس بين الشعوب غدا يرتكز إلى التفوق والإبداع في العلم والتكنولوجيا والخيال والانتاج والمعرفة، بل و كل ما له علاقة بالحياة المعاصرة، وليس على الثروات الطبيعية. وهذا يعني “أن التثاقل والبطء والنمطية و التقليد والتحشيد الذي يسود المنظومة التعليمية الحالية بحاجة لأن تنتهي”، لتبدأ إنطلاقة جديدة تمكن الجيل الصاعد من توظيف عقله وابداعه وخياله وقدراته”في صنع مستقبله. فيعتمد على نفسه في التعلم والتعليم والتفاعل والتشارك مع الآخرين انتاجياً ومعرفيا لإغناء الواقع الإقتصادي والإجتماعي والعلمي والتكنولوجي والإنساني.، بكل ما يتضمن ذلك من تجديدات ومواقف ورؤى لا تشكل تكراراً للحاضر ولا نقلاً عن الماضي.
هناك محركات خمسة لانطلاق التعليم و تخليصه من العقم و التثاقل و الرتابة، علينا الشروع في بنائها و تشغيلها في أقرب فرصة، وعدم الانتظار أو الاكتفاء بالإصلاحات التقليدية على أهميتها مثل تأهيل المعلم والإدارة المدرسية والكتاب والإمتحان. المحرك الأول :الفلسفة في المراحل التعليمية جميعها. فتدريس الفلسفة هو المدخل الفعال و ربما الوحيد لتعليم الطلبة التفكير والتحليل والتركيب، وتقييم البراهين والأسباب والحكم على الصحيح منها وتمييزه عن الزائف. والفلسفة هي التي تحفز التفكير النقدي والإبداعي التي يطالب بها الكثيرون،إضافة إلى انها تشجع الطلبة على طرح الأسئلة الحياتية الكبرى، وتساعد على الإجابة .وبذا تكسر الممنوعات (التابوهات) المعرفية المستقرة في وجدان الإنسان العربي. و يؤكد الباحثون “أن تدريس الفلسفة يساعد على تكوين الشخصية المتوازنة التي تميل نحو الفضيلة والعقلانية،و ترفض المغالاة و التطرف،و بالتالي ترفض العنف و الإرهاب.هذا إضافة إلى ان الفلسفة تحسن التحصيل العلمي للطلبة في الرياضيات و اللغة و القراءة”. وبطبيعة الحال يبدأ تدريس الفلسفة من مستويات بسيطة ليتدرج في العمق من منظور علمي واجتماعي وثقافي. . الثاني : الفنون. ليس هناك من وسيلة لتهذيب النفس، وتهدئة المزاج وتقليص العنف، وتعويض خشونة البيئة و قسوتها، وتوسيع آفاق الخيال والإبداع أكثر من الفنون. وقد تبين للباحثين أن المجموعات الطلابية التي تأخذ حصصاً كافية ومنوعة من الفنون، يزداد تحصيلها العلمي وترتفع درجات التقييم لها.
إن الفنون هي الوسيلة الأفضل لكسر الحواجز النفسية لدى الصغار والشباب ولدى الانسان عموماً، وهي المدخل الأكثر اتساعاً لقبول الاخر وقبول التنوع الاجتماعي، ورؤية الجانب الجميل من مكونات المجتمع و الوطن و الإنسانية، الأمر الذي ينعكس ايجابياً على شخصية المتعلم و علاقته مع زملائه ومجتمعه،و إيجابيا على التماسك المجتمعي. إن الفنون هي التي تؤصل حس الجمال وامكانية الاستمتاع به و المحافظة عليه، و هذا يدفع باتجاه الشخصية الوطنية المنتجة التي تهدف التربية والتعليم و الثقافة إلى بنائها . وواقع الأمر أن الفنون لم تعد مقتصرة على الجانب الترفيهي والاستمتاعي،على أهمية ذلك،وانما تغلغلت في صلب إقتصادات الدول، وفي عمليات التصميم والانتاج السلعي والتسويق و الخدمات الأخرى. فليس هناك من سلعة أو خدمة يتم انتاجها وتسويقها دون أن تأخذ شكلاً جمالياً جاذباً وهيئة فنية تعطيها ميزة خاصة. الثالث : الاستكشاف والمخاطرة و الرياضة .إن ما يصبغ الحالة العربية في أبعادها المجتمعية والاقتصادية والتكنولوجية بل والسياسية، هو الخوف من الفشل، والتردد أزاء القرار، والمخاطرة بالمجهول و غياب الرياضة من الثقافة و الممارسة المجتمعية. وبالتالي عدم الاكتراث بالاستكشاف ومواجهة مفرداته، وهي حالة مثبطة للابداع ومحبطة للخيال ومحجمة للتفكير، ومضادة للتجديد والإبتكار. سواء كان ذلك للمغامرة في رحلة جبلية، أو الفوز في مباراة، أو البدء في مشروع ريادي، أو تنفيذ فكرة عملية وتحويلها إلى اختراع، فالخوف هنا يصبح حالة نفسية عامة تشمل كل شيء. وليس هناك تعليم حداثي ولا تعلم ذاتي لا يقوم على الفضول والرغبة في المعرفة واستكشاف المجهول. وتأتي الرياضة الجادة هنا جزءا موازيا أو مكملاً لمتطلبات الاستكشاف والمغامرة. وهذا يعني أن النشاطات اللامنهجية يجب أن تتحول إلى حالة متحركة تزرع في نفوس الصغار الثقة الجسمانية والذهنية و النفسية، وتجذر الإستعداد للمغامرة والرغبة في الاستكشاف والوصول إلى الهدف مهما كانت الصعاب.و هذا من شأنه ان يحسن من التحصيل التعليمي و الأداء العام للطلبة. الرابع: اللغة : ذلك أن ضعف الطلبة في اللغة العربية يبعدهم بالضرورة عن القراءة و الكتابة، وعن التفكير المتسلسل المنظم،و يضائل من تفاعلهم مع المعارف والمعلومات، ويخفض من تفاعلهم المعرفي مع الشرائح المهنية لوجود حاجز نفسي ومهاراتي تمثله اللغة . و هذا من شأنه أن يخفض التحصيل و الإستيعاب بما يقارب 40% .ومما يفاقم المسألة تلك الفجوة الكبيرة بين اللغة العامية المتداولة وبين اللغة الصحيحة.
ولعل مواقع التواصل الاجتماعي تكشف بوضوح خطورة المسألة اللغوية وضحالة ما تحمله تلك المواقع في كثير من الأحيان. وإذا كان التعليم المستقبلي يقوم على التعلم، ويكون الطالب محور العملية التعليمية، فإن اللغة بوصفها ليس فقط أداة تواصل وانما أداة للتفكير وتنظيمه ولصياغة الأفكار تصبح واحداً من المفاصل الرئيسة في هذا الشأن. الخامس: المهارات؛ لم يعد التعليم يقتصر على المعلومات والمواد المكتوبة و المحفوظة، وانما يعتمد على نجاح التعليم والتعلم ونجاح مخرجات التعليم، في التفاعل إيجابيا مع المجتمع بكل مفرداته، وهذا بدوره يستلزم الاعتماد على المهارات التي لا بد أن يتمكن منها المتعلم. واهمها المهارات الحياتية، ومهارات الاتصال، ومهارات اللغة ( كتابة وقراءة واستيعاباً وتفكيرا وثقافة )، والمهارات المعلوماتية والحاسوبية، ومهارات التخصص ومهارات الريادية والإبداع. وليس هناك من فترة أفضل من مراحل الدراسة المتتالية لاكتساب هذه المهارات، وتنميتها وتوظيفها في اغناء التحصيل المعرفي والمهني على حد سواء.
إن القيمة التعليمية لهذه المحركات تتجاوز 50% من مجمل التحصيل، والقيمة الاقتصادية بما فيها الفرص الضائعة تصل مئات الملايين من الدنانير سنويا، و عليه لا بد من الإسراع في توفيرها في المنظومة التعليمية، ليبدأ العمل عليها بوعي وتصميم،لاطلاق الشباب و إخراجهم من قمقم الخوف والتردد والتقليد والإعادة. وبطبيعة الحالة فإن كفاءة المعلم وجودة البيئة التعليمية من شأنها أن تجعل المحركات أكثر ديناميكية و فاعلية. وبذا يمكن للتعليم وللمجتمع على حد سواء أن يدخلا مرحلة جديدة تقوم على الانفتاح والتفوق في كل اتجاه وذلك هو المستقبل.