ضربت عُمان موعدًا مع التاريخ ـ بعد توفيق الله ورعايته وعنايته ـ ليكون الثامن عشر من نوفمبر أحد الأيام الخالدة في تاريخها المجيد، وهو اليوم الذي أخذ مكانته ومساحته في قلب عُمان، وذلك ليس لما يمثله من حدث تاريخي فحسب، وإنما للنتائج التي وضعتها الأقدار وإرادة الله في رجل حكيم وملهم توافرت فيه جميع صفات القيادة ليعيد للإشعاع الحضاري لعُمان بريقه، وليضع مجدها حيث يجب، وليضيف صفحات جديدة في تاريخ تفردها الحضاري والإنساني، إنه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومظاهر الأفراح والابتهاج التي تعيشها عُمان اليوم احتفالًا بالعيد الوطني السابع والأربعين المجيد تنسج في لوحاتها الوطنية أروع ملاحم الانتماء والولاء والعرفان والتلاحم لهذا الوطن العزيز ولجلالة قائده المفدى. فتَعدُّد ألوان التعبير عن هذه المناسبة الوطنية الغالية المجيدة تأخذ الناظر إليها إلى آفاق رحبة، وتبعث في نفسه معاني متوالية ومتعددة، ومشاعر مختلطة لا سيما عندما يضعها تحت عدسة مجهر التاريخ والأحداث التي مرت بها عُمان، أو الأحداث التي لا تزال تمر بها دول المنطقة والإقليم والعالم، حيث الفارق يبدو واضحًا ومعطيًا قراءة موضوعية وصورة واقعية لحقيقة الخصوصية العمانية، سواء كانت من حيث الشخصية العمانية بوجه عام، أو من حيث النهج السياسي بوجه خاص، والذي باتت مداميك نجاحه لا تخفى على أحد، وذلك لما نهض عليه من أسس صلبة متجذرة في عمق التاريخ العماني، ومستمدة مفرداتها من التراث العماني والشخصية العمانية المتسامحة المتحابة والمحبة للخير والسلام والاستقرار. فالنهج القائم على مد جسور التواصل وحل المشكلات بالحوار والتفاهم، واحترام مصالح الآخرين وتبادل المنافع المشتركة، وعدم التدخل في شؤون الغير، هو نهج لم يكن مستوردًا، وليس وليد اليوم أو المصادفة أو ولد من رحم الظروف والأحداث، وإنما هو نهج راسخ جُبِلَت عليه التربة العمانية وإنسانها.
وبعيدًا عن المبالغة فإن هذا النهج هو بمثابة طوق النجاة من طوفان الفوضى والإرهاب والفتن الذي تغرق فيه المنطقة، حيث دول غرقت وأخرى تقاوم الغرق، فالسياسة هي فن الممكن، والممكن في ظل هكذا أوضاع أن تجيد السباحة، وأن يكون لديك ما يعينك على الصد والامتصاص وتجنب الغرق، إلا أن هذا لا يعني أننا بتنا بعيدًا عن مد طوفان الفوضى والإرهاب والفتن، خاصة وأن العابثين والمرجفين في الأرض وذوي المشاريع الامبريالية والاستعمارية ومن معهم من العملاء والخونة والمرتزقة لم يتوقفوا عن مواصلة تغذية هذا الطوفان لمضاعفة قوة اندفاعه أو على الأقل الحفاظ على وتيرته الحالية. فهناك قنوات فضائية ووسائل إعلام ومواقع وحسابات إلكترونية مسخرة لخدمة هذا الطوفان. والمؤسف أنها أشاحت عن وجهها القبيح تجاهنا في مناسبات عديدة وعن دورها المشبوه، وأخذت تتمترس خلف مقولات زائفة وممجوجة، واستطالت بشكل مَرَضي في كثير مما تبثه، فتارة تبث سمومها في محاولة لاصطياد عوام الناس والبسطاء والمراهقين، واستغلال بساطة ثقافتهم وتواضع مستواهم الفكري عبر مقارنات غير منطقية كالمقارنة بين وضع معيشي وآخر أو العزف على وتر مطالب لهم وذلك يبدو بعد عمليات ترصد ومتابعة لما يشغل ويطمح إليه أفراد المجتمع، وتارة عبر محاولة الدس في خطاب ديني، وتارة أخرى عبر استغلال موقف سياسي أو حدث سياسي أو أمني للتحريض والدس، و…إلخ.
إن المشهد الوطني وهو يحتفل بالعيد الوطني السابع والأربعين المجيد مشهد عظيم تكاملت فيه الصور لتخرج لنا ملحمة وطنية بامتياز، تدلل على فلسفة خاصة بين الحاكم والمحكوم، من أبرز مظاهرها وركائزها الشراكة الفعلية بين الحكومة والشعب عبر مؤسسات تتمتع بالصفة الاعتبارية، ومدى التلاحم والالتفاف الكبير بين القيادة الحكيمة والشعب العماني، حيث تمتزج ألوان الوطن مع المشاعر الجياشة المتبادلة من الحب والاحترام والتقدير لينقل هذا المشهد إلى العالم بأسره صورة حية تؤكد الانسجام التام بين أبناء عُمان البررة وقيادتهم الحكيمة. هذه الفلسفة وما قامت عليه من مظاهر وركائز كانت مفتاح النجاح في إقامة أركان الدولة العمانية العصرية، ووضع اسمها على الخريطة العالمية. لذلك ونحن نعايش اليوم محاولات التربص بنا وبإنجازاتنا ومكتسباتنا ومحاولة المس بوحدتنا الوطنية ببث سموم التشكيك والمقارنات والتشويش وبنثر بذور التفرقة وغير ذلك، مع الهيجان المتواصل لأمواج طوفان الفوضى والإرهاب والفتن والتدخل في الشؤون الداخلية للدول بالمنطقة، فإنه حري بنا أن نعي أننا أمام مرحلة الدفاع عن ما حققناه وأنجزناه، وهي مرحلة لا تقل أهمية عن المرحلة الأولى لعملية البناء، وأن نكون على مستوى كبير من الوعي والفهم لما يدور حولنا، وأن نكون أهلًا للنعم وشكرها، وأولى هذه النعم وأعظمها نعمة هذا الوطن وما يتمتع به من أمن وأمان واطمئنان واستقرار، وشكرها لا يكون إلا بالحفاظ عليه وعلى منجزاته ومكتسباته، والالتفاف حول قيادته الحكيمة، والاستعداد للتضحية من أجل عزته ورفعته وشموخه وبقائه، وعدم الانجرار وراء الإشاعات المغرضة، والأهواء الطائشة، والتمييز بين الغث والسمين، والتفنيد بين الصحيح وغير الصحيح. فما أهلك غيرنا وأطاح بأوطانهم سوى انجرارهم وراء كل ناعق، وبيع ذممهم لكل تاجر ومستعمِر، واعتبارهم لأوطانهم سلعة يبيعونها لمن يدفع أكثر، فإذا بهم اليوم في مزابل التاريخ لا هم بأوطانهم، ولا هم بأموالهم التي جنوها من وراء خيانتهم.