قد لا يختلف أحد على أن ياسر عرفات كان قائدا وحدويا استطاع أن يحمل القضية الفلسطينية بكل آمانة وأن يحمي المشروع الوطني في أدق واعقد المراحل، فكانت حياة القائد حافلة بالعطاء والتضحيات، منذ أن شارك في قتال العصابات الصهيونية عام 1948، مروا بتأسيس حركة “فتح” وتوليه لرئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، وإشرافه وتنظيمه لعمليات الكفاح المسلح في الأرض المحتلة بعد هزيمة عام 1967، ومعركة الكرامة، وأحداث أيلول، ومرحلة لبنان وتونس والجزائر وإعلان الاستقلال عام 1988، وصولا إلى اتفاق أوسلو والعودة إلى الوطن وحصاره داخل مقر المقاطعة في رام الله، واستشهاده. وما بينهم من أحداث مرت بها القضية الفلسطينية.
تعرفت على القائد ياسر عرفات في مرحلة مبكرة وقبل الإعلان عن تأسيس حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر عام 1963، وكان برفقة الشهيد خليل الوزير، واستمرت هذه العلاقة حتى يوم استشهاده، واكتشفت خلال الأربعين عاما التي عرفت بها ياسر عرفات عظمته وتميزه، عايشته في أحوال الشدة والتألق، وكنت أرى فيه دوماً الإنسان القوي المتواضع، والشجاع الجريء ببعد نظره، والمقاتل دوماً والذي لا يستسلم من اجل فلسطين، ومهجة فؤاده القدس، ونشأت بيننا وخلال وقت قصير صداقة من نوع خاص، وأصبحت أعتبره الأخ والصديق، لكن في ذات الوقت القائد، لأنني رأيت فيه الرجل الملتزم الصادق، وبأن فلسطين تسكن عقله وقلبه، وكنت أسمع من ياسر عرفات كل ما أتمنى أن اسمعه عن فلسطين فزاد إعجابي به، وزادت محبتي واحترامي له.
وأستذكر حادثة كانت في العام 1964 حين دخل أبو عمار وأبو جهاد إلى مكتبي في العاصمة الجزائر وقالوا أن الزعيم الوطني الفلسطيني احمد الشقيري موجود في الجزائر، وأنهما يرغبان بلقائه وطلبا أن أكون معهما فوافقت، ورافقنا أيضا إلى هذا اللقاء الأخ حمدان عاشور، والأخ محمد أبو ميزر. وفي هذا اللقاء تحدث “أبو عمار”، بطلبات محددة تركزت على الدعم المعنوي والمادي، وكان يتحدث بحرارة وحماس، وما كان يتحدث به عرفات كنت متعطشا لسماعه منذ حين، …، احتد النقاش، وقال أبو عمار للشقيري في نهاية حديثه: “بعد عشر سنوات على الأكثر ستسمع صوتي وكلامي هذا عن القضية الفلسطينية من أعلى المنابر في العالم كله، نحن ثوار ولدينا برنامج نضالي، في تلك اللحظات خالجني شيء من المبالغة فيما يقوله ياسر عرفات، لكن تأكدت بعد مرور عشرة سنوات على تلك الحادثة أن ياسر عرفات كان يتحدث برؤية عميقة وببعد نظر عندما رأيته يوم 13/11/1974، يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزاد إيماني يومها بان هذا الرجل يملك رؤية وحدساً وبعد نظر وخصائص لا تتوفر لغيره.
ومن المواقف التي أعتز بها في علاقتي مع ياسر عرفات انه طلب مني بعد انتهاء أزمة غزو العراق للكويت في العام 1991، المساعدة في تحرير مئة مليون دينار كويتي “نحو 365 مليون دولار من أموال المنظمة أو فتح كانت جمدت في ذلك الوقت، وكانت فتح ومنظمة التحرير في وضع مالي صعب جدا في تلك المرحلة، وعندما نجحت في تحرير ذلك المبلغ فرح ياسر عرفات وشكرني كثيرا وأشاد بذلك أمام القيادات الفلسطينية، وكنت سعيدا لأنني نفذت طلبه بنجاح، وكنت سعيدا أيضا لأنني نجحت في إسعاده ودعمه معنويا علاوة على المبلغ نفسه الذي كان في أمس الحاجة إليه. وكان يردد أمام الناس الذين يلتقون به “منيب أنقذ حياتي في الأردن، وبقي معنا في جميع منعطفات القضية الفلسطينية، وساعد في وضعنا المادي منه ومن مصادر أخرى، ولم يطلب أي شيء له شخصيا مني، بل كان دائما مقداما في تلبية حوائجنا من دعم مالي أو أي دعم آخر.
وخلال سنوات علاقتنا كنت لا أتأخر عن تنفيذ أية مهمة ولا أتوانى عن تقديم أي نصيحة أو معلومات أو إمكانيات، فقد بقي ياسر عرفات بالنسبة لي كما كان دائما علاوة على الأخوة والصداقة القوية هو “القائد” و”البطل”.
وحين فرض الاحتلال الحصار عليه في المقاطعة في مدينة رام الله، كنت دائما على تواصل معه، وأذهب إليه باستمرار وبدلا من أن أرفع من معنوياته كان يبادر إلى رفع معنوياتي والحاضرين، ويسأل بشكل مفصل عن أحوال الناس ويشد من أزر الجميع، وحين اشتد الحصار عليه ذهبت أنا وجميع افراد اسرتي لنقيم معه، رغم الخطر المحدق من قوات الاحتلال التي حذرتنا قبل الدخول إلى المقاطعة، إلا أننا كنا مصممين أن نعيش ونستشهد معه، لكن ياسر عرفات بعد استقبالنا أصر على أن نغادر لأن الوضع كان صعبا للغاية.
حين تعرض للانتكاسة الصحية في أواخر شهر تشرين الأول 2004، لم أشعر بقلق كبير عليه، فقد كنت اعتقد أن ما يحدث هو مجرد غمامة ستزول وسيعود “أبو عمار” بعد شفائه منها كعادته قويا صلبا قائدا وبطلا. قال لي وأنا أودعه في المقاطعة بعد أن صعد إلى الطائرة المروحية التي ستنقله للعلاج في فرنسا: “لا تتركني يا منيب” وضم يدي إلى صدره. يبدو أن عقلي وقلبي لم يكونا قادرين على استيعاب رؤية أبو عمار في هذا الموقف، فسقطت على الأرض من سلم الطائرة المروحية وغبت عن الوعي نحو نصف ساعة، واتصل أبو عمار من عمان التي وصلها في طريقه إلى باريس للاطمئنان على صحتي، ولحقت به إلى باريس لأكون قربه، وكانت تلك الأيام من أقسى وأصعب الأيام علي في حياتي، مع أنني كنت دائما مؤمنا بأن ياسر عرفات كطائر العنقاء سيعود، وأنه كما عودنا سيبقى وسينجو.
وعندما رافقت جثمانه في رحلته الأخيرة من باريس إلى رام الله كنت في كل لحظة انتظر وأتوقع المعجزة؛ انه سينهض وسأتحدث إليه مجددا، فقد اعتدت عليه طيلة أكثر من 40 عاما بطلا قائدا ملهما، رجلا عظيما شجاعا جريئا إنسانا متواضعا صديقا وفيا لطيفا، كنت أرى فيه الأم بحنانها وحبها وحرصها ومثابرتها، والأب في حنوه وعطفه وإرشاده و”قسوته” وقراراته، وكانت مخيلتي تستعيد الذكريات معه .. وكيف كنت أراه في المجالس كريما ودودا محبا للدعابة ومقبلا على الحياة بزهد ونبل وسمو وإيمان بالله وبمعتقداته وبفلسطين التي عاش واستشهد محبا لها ولترابها ومجاهدا لتحريرها وبناء حاضرها ومستقبلها، ولهذا لم أكن أتصور انه يمكن فقد كل ذلك في لحظة واحدة، لكنها إرادة الله ولا راد لقضائه.
ولم تنقطع علاقتي مع “أبو عمار” بعد وفاته، وما زلت أتردد على ضريحه كلما جئت إلى رام الله واغادر رام الله، أقرا على روحه الطاهرة فاتحة القرآن الكريم، وأبثه شجوني، واستعيد شيئا من تلك الأيام التي افخر واعتز بأنني عرفته ورافقته فيها. وكما كان وفيا لشعبه وقضيته، علينا أن نكون أوفياء له ولتاريخه، فهو يستحق أكثر. ولا زال يسكن في قلبي وعقلي وضميري في جميع جوارحي، ولم يغب عني ابدا، كما يسكن في قلب وعقل كل فلسطين، فقد أسس لنهج وفكر لا يمكن له أن يغيب او يتم تجاوزه، فالأخ الرئيس أبو مازن متمسكا بهذا النهج وعلى خطى القائد الشهيد سائرون جميعا.
الخـــــــــــــالد … وبعض الذكريات / منيب رشيد المصري
12
المقالة السابقة