اقترن اسم منطقتنا على الدوام بالحروب والاضطرابات، لكنْ كانت هناك فترات من الهدوء الحذر مكّنت دول المنطقة من الالتفات لشؤونها الداخلية أملا بتنمية تحسّن مستوى معيشة شعوبها.
منذ الغزو الأميركي للعراق العام 2003 لم يحظ الشرق الأوسط بيوم واحد من الاستقرار، غزو عسكري استجلب معه إرهابا لم ينقطع طال العالم أجمع، وتدخلات خارجية صار لأصحابها اليد الطولى في تقرير شؤون الداخل. إسرائيل وإيران وتركيا بسطت نفوذها في عموم الإقليم. روسيا عادت أكثر قوة من السابق، وأميركا خلقت الفوضى ولم تعرف طريقا للخروج منها.
الحروب والمواجهات لم تتوقف طوال العقد الأول من الألفية الجديدة. العقد الثاني حمل مفاجآت مدوية؛ ثورات شعبية همها الإطاحة بالأنظمة السلطوية، وإذ بها تطيح بالدول والحدود، وتتعدى على الجغرافيا.
الثورات فجّرت حربا كونية في المشرق العربي ميدانها سورية، فأصبح الكلام عن”سايكس بيكو” ثانية رأيا عاما مستقرا في الشارع العربي.
لم يعد بمقدور أذكى الساسة والخبراء أن يرسم خريطة لمستقبل المنطقة بعد سنة أو سنتين. الأحداث تمضي دون قوة ناظمة. قانون العشوائية هو الحاكم والناظم، ننام على صورة ونصحو على خلافها.
في الأشهر الأخيرة بانت بوادر تهدئة في المنطقة، تفاءلت الشعوب خيرا بانتصار العراقيين على الإرهاب، وعودة الاستقرار لسورية بعد سبع سنوات عجاف. شعوب الهلال الخصيب على وجه التحديد أنهكتها الحرب الكونية، وتطمع باستعادة مكانتها الحضارية ودورها الريادي في المنطقة، لكن لا المشروع الإسرائيلي الاستيطاني منحها هذه الفرصة، ولا أطماع الآخرين مكنتها من هدنة لالتقاط الأنفاس ولملمة الجراح.
ها نحن نعود لمربع التأزيم، لا تكفينا الكارثة الإنسانية في اليمن، فنستعجل الأحداث لفتح جبهة جديدة في لبنان.
انتهينا من سورية؟ ربما، فالقوى المتنافسة ملّت الصراع بدون نتائج حاسمة، والشعب السوري خسر كل ما لديه ولم يعد قادرا على تقديم المزيد من الدماء.
هل تعود لبنان المدماة بتاريخها لتكون ميدانا لجولة جديدة من الصراع؟ إسرائيل متحفزة بانتظار غلطة من حزب الله. إيران التي ربحت في سورية لن تقبل الخسارة في لبنان.
كانت اليمن مسرحا للعبة عضّ الأصابع بين السعودية وإيران. يبدو أن طرفا ما توجّع في اليمن، فقرر فتح جبهة جديدة قبل أن يصرخ مستسلما.
ما نزال في بداية المرحلة الجديدة، استقالة الحريري من الرياض ليست سوى الصفحة الأولى في كتاب مليء بالإثارة والدم.
إذا ما وقعت الحرب في لبنان هذه المرة فلن تكون كسابقاتها، سيتوسع نطاقها، وتدخل عليها أطراف عدة. بعض الأطراف تتوهم الحسم النهائي، وتمني النفس بانتصار ساحق. ذلك مستحيل؛ الزمن الذي كانت فيه الحروب وسيلة تخط بعدها القوى المهزومة وثيقة الاستسلام انتهى مع آخر حرب عالمية “ثانية“.
مهما خاضت هذه المنطقة من حروب فإن أحدا من شعوبها لن يستسلم للآخر. ليس أمامنا جميعا سوى التعايش. كلفة التعايش مهما كانت لا تساوي حياة طفل يأمل بالغد.