يبدو أن منطقة الشرق الأوسط على وشك الدخول في مرحلة جديدة من تاريخها المضطرب، خصوصاً بعدما أفضت التفاعلات المحتدمة على ساحتها إلى جملة من النتائج، كانت تبدو حتى وقت قريب غير محتملة وربما خارج نطاق الحسابات التقليدية كلياً، أهمها:
1- صمود النظام السوري الذي تمكَّن أخيراً من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة، سمحت له بالسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي التي فقدها في مراحل سابقة، وأجبرت القوى الدولية والإقليمية المناوئة على الاعتراف له في الوقت نفسه بدور رئيس في تحديد مستقبل سورية، وربما تكون سلَّمت بحقه في قيادة مباشرة للمرحلة الانتقالية التي يفترض أن تمر بها أي صيغة يمكن التوصل إليها لتسوية سياسية للأزمة السورية.
2- انفجار النظام الإقليمي لمجلس التعاون الخليجي من داخله، بعد فشل الجهود الإقليمية والدولية التي بذلت حتى الآن لاحتواء أزمة قطر، ما ساعد على ظهور تحالفات جديدة بدأت تمارس تأثيراتها الحاسمة على التفاعلات الجارية في المنطقة، ووصول التنسيق بين إيران وتركيا حول معظم القضايا الإقليمية إلى مستويات غير مسبوقة.
3- فشل المقامرة الكبرى التي أقدم عليها مسعود بارزاني، بقراره المنفرد والعنيد تنظيم استفتاء على استقلال إقليم كردستان العراقي، فاتحاً بذلك الطريق أمام الحكومة العراقية لإحكام سيطرتها على المناطق المتنازع عليها مع حكومة الإقليم، وخصوصاً منطقة كركوك الغنية بالنفط، الأمر الذي أدى إلى نتائج بعيدة المدى لن تقتصر تأثيراتها على العراق فحسب وإنما ستمتد لتشمل مستقبل المنطقة برمتها.
إذا أردنا تلخيص نتائج التفاعلات الجارية حالياً في جملة واحدة مفيدة، فبوسعنا أن نقول أنها تفضي موضوعياً إلى تشكيل تحالفين يقفان على طرفي نقيض، من المتوقع أن يشتد الصراع بينهما في المرحلة المقبلة وقد يأخذ أبعاداً شديدة الخطورة:
الأول: تحالف تقوده روسيا على الصعيد الدولي وتشارك فيه تركيا وإيران على الصعيد الإقليمي، مرتكزاً على قوى عربية رسمية، في مقدمها نظاما الحكم في كل من سورية والعراق، وأخرى غير رسمية، في مقدمها «حزب الله» اللبناني والمقاومة الفلسطينية المسلحة.
والثاني: تحالف مضاد تسعى الولايات المتحدة إلى قيادته على الصعيد الدولي، وتحاول إشراك إسرائيل فيه على الصعيد الإقليمي، مرتكزاً على قوى عربية رسمية وغير رسمية تستشعر الخطر من تمدد النفوذ الإيراني ومن انتشار الإسلام الراديكالي في المنطقة، شيعياً كان أم سنياً، وترى فيهما أهم مصادر تهديد الأمن في المرحلة المقبلة.
ولأن الولايات المتحدة، التي سعت جاهدة لإعلان قيام هذا التحالف منذ فترة ليست بالقصيرة، أدركت أن موازين القوى في المنطقة بدأت تميل لغير صالحها، فقد راحت تكثف جهودها في الآونة الأخيرة وتتحرك بنشاط متسارع لإعادة ترتيب أوراقها وحساباتها من أجل تهيئة المنطقة للدخول في مرحلة ما بعد «داعش»، والتعامل مع إيران باعتبارها العدو البديل من «داعش».
لا شك في أن قلق الدول العربية ومخاوفها من تمدّد النفوذ الإيراني، خصوصاً داخل سورية ولبنان والعراق والبحرين واليمن، له ما يبرره. غير أن الدول العربية ترتكب خطأً استراتيجياً إن هي اعتقدت أن السياسة الجديدة التي تتبناها إدارة ترامب تجاه إيران، والتي ترتكز على مقومات تتناقض كلياً مع سياسة أوباما، جاءت لتبديد هذا القلق العربي أو لتهدئة المخاوف العربية، لأن عليها أن تدرك أن التأثير العربي على السياسات الأميركية يكاد يكون منعدماً. لذا لا يخالجني شك في أن سياسة ترامب الجديدة تجاه إيران تعكس قدرة اللوبي الصهيوني على تغيير توجهات السياسة الخارجية الأميركية وإعادتها إلى مسارها الطبيعي في كل مرة ترى إسرائيل أنها انحرفت عنه ولم تعد تتطابق مع مصالحها. ويكفي أن نتذكر هنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كان الأعنف في انتقاده لأوباما عقب إبرامه اتفاقاً مع إيران حول برنامجها النووي، ووصل تحديه لأوباما في عقر داره إلى حد الإصرار على إلقاء خطاب من فوق منبر الكونغرس الأميركي ذاته صُمّم بخاصة لمهاجمته.
لخَّص ترامب في خطابه الأخير مجمل سياسته الجديدة تجاه إيران والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه يرى في النظام الإيراني مصدراً لكل الشرور في المنطقة. صحيح أن ترامب لم يصل إلى حد التصريح علناً بأنه قرر العمل على تغيير هذا النظام، لكن كل كلمة في هذا الخطاب توحي بأنه يؤمن إيماناً عميقاً بأن تغيير النظام الإيراني هو السبيل الأنسب، إن لم يكن الوحيد، لتخليص المنطقة من ظاهرة «التطرف الإسلامي». وقد يكون صحيحاً أيضاً أن ترامب لم يتخذ بعد قراراً بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، لكن الدلائل تشير إلى أنه بدأ التحرك صوب هذا الهدف وسوف يقدم لا محالة على هذه الخطوة في الوقت المناسب. وفي اعتقادي أن ترامب يدرك حجم المخاطر الهائلة التي قد تترتب على إقدامه على عمل عسكري مباشر ضد إيران، وهو الخيار الذي تفضله إسرائيل وتسعى إلى جرّ الولايات المتحدة إليه، لكنني أظن أن هذا الخيار ليس مستبعداً وسيلجأ إليه ترامب كحل أخير بعد أن يكون قد مهد الأجواء الإقليمية والدولية لتقبله، هذا إن قُدّر له أن يكمل فترة ولايته الأولى.
إعداد الأجواء الإقليمية والدولية لمرحلة ما بعد «داعش» ستدفع ترامب، في تقديري، إلى بلورة استراتيجية جديدة تجاه إيران والمنطقة تقوم ركائزها على المحاور التالية:
1- اعتبار النظام الإيراني القائم على ولاية الفقيه مصدر التهديد الرئيس للمنطقة، من منطلق أنه الملهم الرئيس لظاهرة التطرّف الديني التي تغذي «الإرهاب الإسلامي»، والعمل بالتالي على حشد وتعبئة القوى الحليفة لإجبار هذا النظام على تغيير سياساته، خصوصاً سياساته الداخلية تجاه الحريات وحقوق المعارضة، وكذلك سياساته الخارجية، خصوصاً تلك المتعلقة بالموقف من إسرائيل ومن الحلول المطروحة لتسوية القضية الفلسطينية.
2- الالتزام بالعمل على وقف تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، تمهيداً لمحاصرته والقضاء عليه، باستخدام سياسات قد تختلف أدواتها مِن حال إلى أخرى. فمحاصرة النفوذ الإيراني في سورية ولبنان قد تستدعي مزيداً من الضغوط السياسية والعسكرية على «حزب الله»، وربما تنتهي بشن الحرب عليه إن سمحت الظروف، بينما قد تستدعي محاصرته في اليمن مساعدة الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية على وقف الحرب وإيجاد تسوية باستمالة أسرة علي عبدالله صالح وبمشاركتها.
3- العمل على تهيئة الأجواء الإقليمية للقبول بتعاون استراتيجي وسياسي وأمني لمواجهة «الخطر الإيراني المشترك»، ربما من خلال دعم أجواء المصالحة بين «فتح» و «حماس» بطريقة تسمح بنزع سلاح الأخيرة أو وضعه تحت وصاية مصرية أو دولية، مقابل إطلاق مفاوضات بين الحكومة الفلسطينية الموحدة وإسرائيل لتهدئة الأوضاع تحسباً لاحتمالات اندلاع صدام مسلح مع إيران. بوسع المراقب المتابع للتفاعلات المحتدمة في الشرق الأوسط ملاحظة أن الصراع في هذه المنطقة وعليها يجري على مستويين:
الأول: كوني، تشتبك فيه القوى العظمى المتنافسة للهيمنة على هذه المنطقة، خصوصاً الولايات المتحدة التي يتراجع دورها تدريجاً مقارنة بما كان عليه في العقود الخمسة الماضية، وروسيا الاتحادية العائدة إلى المنطقة من جديد لاستخدامها كبوابة تأمل في أن تستعيد من خلالها مكانتها المفقودة على الساحة الدولية منذ عقدين على الأقل.
الثاني: إقليمي، تشتبك فيه كل من إيران وتركيا وإسرائيل، ولكل منها مشروعه الخاص لوراثة أكبر قدر الممكن من تركة الوطن العربي، الذي لم يعد قادراً حتى على الاشتباك مع القوى الساعية لوراثته.
ألا يعني ذلك كله أن العالم العربي تحوّل، للأسف، ساحة عشب تتصارع عليها فيلة عالمية وإقليمية؟