ما حصل في كركوك هذا الأسبوع امتداد لعدم انسجام أصلي وجوهري لم يكف العراق عن مراكمة صور عنه منذ سقوط نظام صدام حسين في 2003. ولشدة ما جادت علينا بلاد الرافدين بالمشاهد الدموية، صار يمكن المرء أن يخاف على نفسه من الانزلاق إلى قناعة مفادها أن «وحدة» هذا البلد يعوزها دائماً صدام ما لكي تلتئم، وأن ثمن الوحدة ليس أقل من ثمن الفرقة والشقاق.
لامرئ مثلي أن يعود بذاكرته قليلاً إلى البدايات المؤسسة عراقَ ما بعد صدام. فالتجربة انطوت على ما لا يحصى من عناصر عدم الانسجام. منذ اليوم الأول للسقوط، وقبله بقليل. القتال حصل حينذاك متجاوزاً حدود انقسام لا تنسجم مع وجهة تقدم القوات. لم يحصل ذلك على نحو افتراضي. كانت له مشاهد مباشرة على أرض المعركة. آنذاك مثلاً دُعينا نحن الصحافيين إلى منطقة قريبة من مدينة حلبجة الكردية لنشهد عرضاً عسكرياً لكتائب المجلس الأعلى الإسلامي الآتية إلى المنطقة عبر الحدود مع إيران. كان عادل عبد المهدي على رأس منصة العرض، وحضر ممثلون عن الأحزاب الكردية. وليس بعيداً من حلبجة، وفي اليوم الذي سبق العرض، كنا ذهبنا إلى منطقة لنغطي فيها بداية وصول المظليين الأميركيين إلى شمال العراق ولينطلقوا من هناك إلى كركوك. كان عدم الانسجام شديداً في المشهدين. مقاتلون من طهران وآخرون من واشنطن، عدوان يقاتلان عدواً، وكان من المفترض أن يكون سقوط صدام مقدمة لسقوط منظومة كاملة ليست طهران بعيدة منها.
منذ ذلك الوقت، كانت خطوط عدم الانسجام قائمة. كانت طهران ترسل الكتائب الشيعية، وكان الأميركيون متوجهين إلى بغداد. وكان الصمت وسيلة التعبير الوحيدة عن هذا المشهد غير المنسجم، والذي ينطوي على انفجار وشيك. وما أكثر الانفجارات التي أعقبته!
الأكراد أيضاً لم يقيموا وزناً للتناقض الجوهري في مشهد الحرب على صدام حسين. لا بل إنهم صمتوا على انقسامهم الخاص الذي بدا أن الحرب تجاوزته. أربيل والسليمانية اعتقدتا أن الوحدة صارت حقيقة بفعل الانتصار المرتقب. لكن في الساعة الأولى لسقوط كركوك، تسابق الحزبان الكرديان (الديموقراطي والاتحاد الوطني) على من سيصل إلى المدينة قبل الآخر ويزرع أعلامه في ساحاتها.
كل شيء في العراق امتداد لتاريخ دموي، وهو يقع على خطوط انقسام لا تلبث أن تستيقظ في أقرب فرصة تلوح. كركوك خريطة انقسامات قبل أن تكون خريطة سكن وعيش وإقامة وحقول نفط. انقسام عربي – كردي، وشيعي – سني، وتركماني – كردستاني، وانقسام محليين ومستوطنين. تنظيم «القاعدة» وجد له في المدينة والمحافظة موطئ قدم، و «داعش» وجد لاحقاً ذلك. الحشد الشعبي الشيعي بنى نفوذاً في أوساط التركمان الشيعة، وبين المستوطنين الذين كان صدام حسين قد أتى بهم من جنوب العراق أثناء مساعيه لتعريب المدينة. الأكراد طبعاً يعتبرون كركوك قدسهم، وللجيش التركي قاعدة عسكرية هناك وظيفتها حماية «مصالح» أنقرة وتركمانها.
كل هذه التناقضات لم تكف يوماً عن الاشتغال منذ ســـاعة الســـقوط الأولى، وعليك لكي تستوعب ما حصل في كركوك هذا الأسبوع أن تستعرض شريط الانقسامات هذا، لا بل أن تضيف إليه مزيداً من المشاهد. فقد أضيفت إلى خطوط الانقسام مصالح دول الجوار. أنقرة لا تريد كركوك في إقليم كردستان، وطهران تريدها جزءاً من دولة العراق الشيعية. التقت مصلحتا العاصمتين عند الرغبة في تأديب الأكراد، لكن المصلحتين لن تلبثا أن تفترقا عند خط الانقسام الشيعي – السني. الموقع الأميركي أيضاً لا يقل غرابة. واشنطن باشرت حملة هائلة على طهران، لكنها في كركوك غير بعيدة من الموقع الإيراني. النزاع سابق على كركوك ولن يكف عن الاشتغال بعدها. ما حصل في المدينة هذا الأسبوع ليس أكثر من محطة تفاهم طفيف ستُستأنف بعده الحروب.
من الصعب على المرء أن يضع هذه الخريطة أمامه ليحاول أن يتوقع شكل الحرب المقبلة. الأكيد أن حروباً تلوح في محيط المدينة، وأنها لن تنجو من مصير الموصل. فلا سابقة انتصار مديد في المنطقة، وهزيمة الأكراد ليست نهائية والصراع بين واشنطن وطهران سيبحث عن أدواته المحلية، ناهيك بأن مسعود بارزاني سيجد منفذاً إلى أنقرة. هذه توقعات قد تطيحها انفجارات متوقعة في العلاقات الكردية – الكردية، أو انزياح في الموقع التركي بدأت ملامح منه تظهر في سورية، لكن ذلك سيأتي أيضاً في سياق إنتاج مزيد من التناقضات المؤسسة لحروب جديدة.
في مشهد كركوك اليوم خطأ لا يمكن مراقباً تجاوزه. ما حصل في المدينة هذا الأسبوع عزز اختلالاً في فكرة عراق ما بعد صدام حسين. هزيمة هائلة للأكراد في المدينة، وليس بعيداً منها، أي في الموصل، هزيمة هائلة للعرب السنّة. هزيمتان بهذا الحجم في منطقة لا قواعد اجتماعية ومذهبية فيها للمنتصرين. فقط لحظة التقاء مصالح غير عراقية وفرت شروط النصر الشيعي والهزيمة الكردية والسنّية. وهذه اللحظة عرضة للتبدد والانقضاء في أقرب فرصة، ستعيد بعدها كركوك، والموصل أيضاً، رسم خريطة نفوذ مختلفة ومعمدة بدماء جديدة.
ليس هذا مجرد توقع، فالخلل الذي ولد من خلل لا أحد يُنكره، واقتصار المعالجة على قرار انسحاب الحشد الشعبي وتسليم المدينة إلى الجيش الاتحادي تكشف مدى انعدام القدرة على استباق الحروب.
كشف الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان هشاشة الوضع الداخلي الكردي، وأن الأكراد أيضاً فشلوا في إنتاج تجربة مختلفة عن تجارب الجوار، لكنه كشف أيضاً أن ثمن وحدة العراق أكبر بكثير من ثمن تقسيمه، وأن معظم الجماعات لا ترغب في أن تعيش مع بعضها بعضاً. ليس هذا جديداً على الأرجح، لكن دائماً وجد من يفرض «الوحدة» من خارج هذه الرغبات. صدام فعلها بالدماء وبالسلاح الكيماوي، وها هو قاسم سليماني يكرر الفعلة. لكن للفارق الزمني بين الوحدتين دوراً في تقصير عمر الوحدة بصيغتها الإيرانية. لقد صار عمر الخطأ أقصر، لكن ما يعقب هذا الانقضاء لن يكون صواباً بالضرورة.