يشكل قرار حزب “ التيار الوطني” بحل نفسه، وانهاء دوره كحزب سياسي رئيس بعد عمل دؤوب دام 17 سنة، حادثة هامة تستدعي الوقوف عندها، فالقرار يعطي إشارة تستلزم التحليل والتدبير، حتى لو كان ذلك متأخراً، خاصة وان أحزابا اخرى ربما تتبع سريعاً. وهنا يبرز السؤال الذي يتأرجح في الذهن السياسي العربي منذ 60 عاماً: “هل الأحزاب لها أهمية بالنسبة للدول؟” وهل هي ضرورة ملحة للدولة الديمقراطية وشرط من شروط الدولة المدنية الحديثة التي يتطلع اليها الناس، والتي أكد عليها الملك في اوراقه النقاشية؟ أم أن الأحزاب مجرد تجمعات و زعامات تسعى للمكاسب والسلطة، و يمكن الإستغناء عنها كما هي الحالة العربية؟
إذا استثنينا تونس ولبنان، وبدرجة أقل المغرب، نجد أن الأقطار العربية لا يوجد فيها دور حقيقي للأحزاب الوطنية المستقلة، ولا مشاركة فاعلة لها في الحياة السياسية. كانت بعض الأحزاب قد وصلت إلى السلطة عن طريق الانقلابات، وتحول الواحد منها إلى حزب شمولي، يحتكر كل شيء بعد أن أقصى الأحزاب الأخرى. و يكون غطاء للزعيم ومجموعته الذين يمارسون السلطة والحكم منفردين، وبقوة الأجهزة والمال والوظائف. وكانت نتيجة تهميش الأحزاب الأخرى وإقصائها في تلك الدول كارثية.
اليوم وبعد 60 سنة من استقلال دول المنطقة، نجدها أضحت مسرحا للتدخلات الخارجية، بل على حافة الانهيار نتيجة لإخفاق الإدارات. فمؤشر الديمقراطية في المنطقة العربية ونحن منها أقل من 40%، ومؤشر الحاكمية 35%،ومؤشر حكم القانون 50%. كما أن معدلات البطالة الحقيقية تعدت الـ 20% وهذا ضعف المتوسط العالمي،ومتوسط دخل الفرد العربي 5500 دولار، و هو نصف المتوسط العالمي. والحروب الأهلية تغطي 5 دول،والاعتماد على الدول الأخرى والمنظمات الدولية يغطي أكثر من 80% من الاحتياجات العربية: ابتداء من الغداء والدواء، وانتهاء بالطائرات والماكنات والأمن والحماية.
قد يكون وراء هذا الفشل والتعثر الإقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي، عشرات الأسباب، و لكن غياب الأحزاب وإضعافها المتعمد، وتهميش دورها يأتي في المقدمة، فهناك علاقة عضوية أساسية بين الأحزاب الوطنية الفاعلة وبين الدولة الحديثة في شتى أبعادها الوطنية والانسانية . وإذا نظرنا إلى الدول المتقدمة،نجدها دول أحزاب، والحياة الحزبية على أشدها، ابتداء من سويسرا 25 حزباً، والسويد واليابان والمانيا،وانتهاء بايرلندا 18 حزباً، وفنلندا 8 أحزاب. وكذلك الدول الناهضة من كوريا إلى الهند والصين وسنغافورة وماليزيا والبرازيل، فالذي يقود حركة النهوض والانطلاق،ويرسى قواعد الديمقراطية (باستثناء الصين ) ويساعد على توحيد الشعوب و تقوية نسيجها في تلك البلدان هي الأحزاب. ومن هنا فإن الحزبية، ليست سياسة فقط،هدفها السلطة كما ترسخ في العقل السياسي والاجتماعي والإعلامي العربي،وانما لها أدوار غاية في الخطورة والأهمية . أولاً :الانتقال بالمجتمع “من عصبيات العائلة والجهة والقرية والمذهب والطائفة إلى عصبية الوطن والمواطنة والتشكيلات الوطنية”. ثانياً : دمج مكونات المجتمع المتنوعة والمتباينة أفقيا و عموديا، في أطر متناسقة وتشكيلات متناغمة، وفق أفكار ومبادئ و برامج الأحزاب. وبذا يقترب المجتمع أكثر فأكثر من التماسك، وتصبح الوحدة الوطنية أكثر قابلية للتجذر والاستدامة و التقدم إلى الأمام. ثالثا: كسر الحواجز الثقافية والنفسية والمصلحية بين الأفراد والجماعات،وبين المجتمع والمرأة، وبين الريف والمدينة والبادية، وبين الشرائح المجتمعية والفئات العمرية. وبالتالي الوصول إلى تجانس وتواصل أفضل في الأفكار والتطلعات والنشاطات. رابعا: اتاحةالفرصة للشباب والشابات لاكتساب الخبرة والممارسة في الإدارة وفي الديمقراطية و التشارك الاجتماعي والتفهم الاقتصادي، وبالتالي ظهور متميزين و مبدعين و قادة من النساء و الرجال ليصنعوا المستقبل ويشاركوا البناء في وقت مبكر . خامساً : وضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل جماعي ومتريث وقابل للتنفيذ على ضوء الدراسات والمراجعات والتنقيح، ومنبثق عن معايشة حقيقية لاحتياجات المجتمع. سادساً :الخروج من حالة “الحكومة الفردانية” وهي الحالة السائدة في المنطقة العربية الى “الحكومة الجمعانية” المدعومة حزبيا وشعبياً، والقادرة على تنفيذ برامج الإصلاح والتطوير والنهوض الاقتصادي، دون التردد والتراجع بسبب معارضة أصحاب المصالح، كما هو في حالة الحكومة الفردانية. سابعاً: اعطاء قوة حقيقية للبرلمان، وهذا لصالح الدولة، حين يكون قائماً على كتل حزبية وليس برلماناً فردانيا لا يستطيع الدخول في تفاصيل سياسية واقتصادية الا في أدنى الحدود، وعند التصويت أو اتخاذ أي قرار تتشتت الاتجاهات حسب تأثيرات القوى وحسب قناعات الأفراد في حينه. ثامناً: تداول السلطة وتحقيق الديمقراطية، ومشاركة الشعب في صنع القرار، وبالتالي تحقيق العدالة وتجديد الفكر والرؤية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والحرص على اقناع الجمهور بجدارة من يصل إلى السلطة. تاسعاً : إعطاء قوة إضافية حقيقية للدولة في علاقاتها الدولية وفي مفاوضاتها واتفاقياتها .عاشراً: إنتاج قيادات وطنية حقيقية تتمتع بالخبرة والمصداقية والمكانة والتأثير، وتخضع في الوقت نفسه للمساءلة الشعبية والحزبية.
قد تبدو هذه الأسباب معروفة.. ولكن العقل السياسي العربي في الواقع والتطبيق لازال غير مستعد لقبولها وتنفيذها. بل إن تقليل شأن الأحزاب، بسبب المواقف الرسمية،اصبح من ثقافة المجتمع تقريباً. ولم تقتنع الدولة العربية حتى الآن أن الأحزاب الوطنية والتي تعمل وفق ميثاق شرف وطني تكمل منظومة السلامة الوطنية بجانبيها الناعم والخشن على حد سواء.
إن المنطقة العربية تنحدر نحو الفشل بتسارع كبير، وآن لكل دولة أن تبحث عن الأسباب، وتتبنى الوسائل والآليات التي توقف ذلك، وتدفع نحو النجاح، حتى لو كانت تلك الاليات وفي مقدمتها الأحزاب لا يتقبلها المزاج في البداية . فالفشل والتعثر والخوف من المستقبل أكثر مرارة من أي دواء.
دعونا نستفد من تجارب الدول الناجحة ولا نتمسك بموقف لم يثبت نجاعة ولا فعالية، ولا نعلق الإخفاق على المؤامرات والتدخلات والظروف الخارجية، فذلك لا يجدي، ولنبدأ مرحلة جديدة، نادى بها الملك لبناء الدولة الحديثة، تعطي فيها الأحزاب الدعم والبيئة المناسبة لتنمو وتعمل وفق ميثاق سلوك اخلاقي وطني. وبذا تدعم الحكومات وتراقب اداءها وتزودها بالافكار والبرامج، وتتواصل مع القواعد الشعبية، وتفسر السياسات والقرارات، دعوا الأحزاب الوطنية تأخذ دورها فذلك واحد من ركائز المستقبل.