قالت لي سلاف وهي صديقة سورية نازحة من ريف دير الزور إلى مدينة عينتاب التركية، هرباً من «داعش»، أنها شعرت بمرارة مضاعفة حين استعاد النظام قريتها من «داعش»، ذاك أن «داعش»، بحسبها، عارض طارئ لن يقوى على البقاء، فيما عودة النظام إلى القرية ستكون امتداداً لخمسين عاماً حكم فيها سورية، ومنها مضارب عشيرة الصديقة السورية.
والحال أن شعور سلاف ظاهرة تستحق التوقف عندها، فهي هربت من «داعش» إلى تركيا، على رغم أنها منقبة، وإذ تشعر بأن عودة النظام إلى القرية سيُمثل استعصاء جديداً قد يمتد عقوداً، فإن «داعش» يحكم من غير منظومة السلطة المستدامة. وشعورها هذا ينطوي على حقيقة يهرب منها الجميع، وتتمثل في أن هذا «الشيطان الرجيم» المدعوّ «داعش»، تُخاطب سلطته البشعة شيئاً من بشاعتـ«نا»، فيما بشاعة سلطة النظام السوري بشاعة احتلالية لا عمق نفسياً واجتماعياً محلياً لها.
التعامل مع «داعش» بصفته شيطاناً غريباً سقط علينا من السماء، فيه هرب من حقيقة لا يجدي الهرب منها. «داعش» شيطان في حديقة شياطين أهلية. فهم هذه الحقيقة يساعد على تجاوزه. والقول أننا حررنا الناس من «داعش» حين حررنا المدن منه، ينطوي على حقيقة وعلى هرب من الحقيقة في آن واحد، ذاك أن التنظيم حين تلبس المدن واحتل القرى والبوادي مثل لحظة استجابة لنداء أهلي، ولا يُعرف عن الأهل في لحظات الاحتقان غير الغريزة يواجهون مصائبهم بها.
اليوم يجرى أيضاً صقل جديد للغرائز. اليوم يشعر «داعش» بأن هزائمه في المدن ليست سوى محطة لولادات جديدة له. هذا الهرب إلى الأمام، في ظل منتصر أهلي يُعلي انتصاره فوق رؤوس مهزومين أهليين، هو تماماً ما يجعلنا نشيح بأسماعنا عما قالته الصديقة السورية، الهاربة من «داعش» إلى تركيا، والتي تشعر بمرارة «تحرير النظام قريتها» من التنظيم المسخي.
الأمر شديد التعقيد ولا تستوعبه عقول انتصارية. «داعش» قتل ألفين من عشيرة العجيلات في ريف دير الزور. النصر عليه لم يمثل انتصاراً للعشيرة، إذ الأخيرة تنتظر أن تنتقم لنفسها على نحو مختلف. القتل الذي مارسه التنظيم هناك يتطلب محوه ضغينة مختلفة، والانتقام لا يتولاه الأغيار.
سلاف قالت أيضاً أن أقارب لها قتلوا أثناء معارك بين «داعش» والجيش الحر. بعضهم كان يقاتل مع التنظيم، وآخرون مع فصائل المعارضة. لم يُقتل أحد من أقاربها أثناء قتاله إلى جانب النظام، فالأخير صار في السنوات الأخيرة قوة من خارج بنية الجماعة الأهلية. «داعش» تنظيم بشع ونكل بالسكان، لكنه استدرج شباناً وشيوخ عشائر وأدمجهم في غريزته وفي خرافاته وعنفه. ابن شقيق صديقتنا كان عنصراً في التنظيم، وهنا ثمة قابلية لمغفرة، ذاك أنها تروي عن عنفه بموازاة «طيبته»، وعن خطورة أفكاره التي تنكسر في لحظة عائلية حميمة. وكم تبدو صورته مختلفة عن صورة عنصر «داعش» الذي في مخيلتنا، ليس لأنه غير قاتل وغير مستجيب لنداء الدم، إنما لأنه يُشعرنا بأننا عرضة أيضاً لاحتمالات إصابته، وللحظات كنا فيها قريبين من مشاعره ومن صوره وقناعاته.
«النصر» المتوهم على التنظيم يقتضي استحضار «داعش» بصفته الغريبة هذه. أهل الموصل فرحون بالقضاء عليه، وهم فعلاً فرحون، لكن الاستنتاج يجب ألّا يذهب إلى خرافة أن التنظيم سقط على السكان من خارجهم. التنظيم مثل استجابة عنيفة للحظة ولد فيها ما يُمكن أن يلاقي «داعش» في منتصف الطريق. الاعتقاد بأن هذه القناعة هجاء للسكان، فيه هرب غير مجد من الحقيقة. فلكل جماعة «داعشها»، وصور الحشد الشعبي لا تبعد مسافة طويلة من تلك التي جاد علينا بها التنظيم الإرهابي. لا أحد بريء. الضحية كانت جلاداً قبل أيام، والجلاد عرضة لمصير الضحية بعد أيام.
«النظام» حرر القرية في ريف دير الزور من «داعش»! لن يُمثل ذلك سوى دوران لدولاب الموت. وأن ننصت لأنين الحائرين في اختيار قاتليهم، فذلك يضعنا أمام سؤال نور. قاتل عمره خمسون عاماً من القتل، وآخر جديد عليه وما زال في صدد تحصيل خبرات واجتراح صور ومشاهد يُباهي بها نظيره، وهو نجح في مباهاته.
لـ «داعش» صوره الكثيرة بيننا، وها نحن نحاول الهرب منها، والقول أنه طائر غريب. العالم كله يريده غريباً. المنتصرون عليه يريدون أن يقولوا أنهم انتصروا على احتلال، لا على أهلٍ وجماعةٍ وعشائر. ومن هزمهم التنظيم يهربون من حقيقة أن من هزمهم هم أولادهم وجيرانهم وعشائرهم. الجميع يواصل الهرب إلى الأمام. الأم التي أرسلت ابنها إلى الرقة نسيت أنها هي من فعل ذلك، وقالت أن شيطاناً لبسه فغادر من تلقائه، والمسجد الذي كان يصلي فيه قال إمامه أن القذيفة التي أصابت مئذنته لم تكن بوصلة ولا وجهة. ونور التي اصطحبتها حماتها إلى المطار لتغادر إلى تركيا ومنها إلى سورية لكي تلتحق بزوجها هناك، عادت حماتها ونفت أنها هي من فعل ذلك، وأخبرت والد نور أن ابنته هربت من المنزل من دون معرفتها.
الجميع بريء، على رغم أن الهزيمة مرتسمة على وجوه كثيرة، فيما النصر تحول شعيرة مذهبية تستدرج وافدين جدداً إلى المذهب والحزب والحشد. والحال أن المرء إذا ما تخيل اليوم أن «داعش» نفذ عملية انتحارية في ثكنة لجيش النظام السوري أو في حاجز للحشد الشعبي، وسأل نفسه عما إذا كانت هذه الفعلة تخاطب مشاعر أحد، فسيجد ملايين المغتبطين، وعلى رغم ذلك سيبقى «داعش» غريباً وستبقى فعلته في منأى من المشاعر المعلنة. فالفاجعة تقيم تماماً في موازاة النصر، والمأساة لم تستثن مدينة في حزام المنكوبين، والأبرياء أكثر الناس انزلاقاً نحو الرغبة في الانتقام.
ما أصعب أن تجد نفسك بين نصر النظام واندحار «داعش»! فأنت هنا تعيش على شفير موتين وفي صحرائهما. هذا تماماً ما حصل لصديقتنا المنقبة حين غادرت قريتها هرباً من منقبة أخرى جاءت من تونس إلى دير الزور. غادرت منقبتنا تاركة أقارب لها يقاتلون مع «داعش» وآخرين ضد «داعش»، تفصل بينهما بئر نفط شحيح، ونظام كيماوي وتنظيم مسخي.