من بين أكثر ما يلفت النظر في زيارة العاهل السعودي لروسيا توقيتها. وهو ما أشارت إليه صحيفة الـ «نيويورك تايمز» الأميركية في أول تقرير لها عن الزيارة، إذ أشارت إلى أنها جاءت بكل ما رافقها بعد زيارة الرئيس دونالد ترامب الرياض، وإضفائه مديحاً باذخاً للسعوديين، وهو ما ينطوي، وفق الصحيفة، على الحجم الكبير للمتغيرات في المنطقة. هناك مؤشرات أخرى إلى حجم الزيارة وأهميتها. ومنها الحفاوة التي استقبل بها الملك تماشياً مع أنها أول زيارة لملك سعودي إلى موسكو، والاهتمام اللافت للإعلام الروسي بالزيارة ومتابعة مسارها بالتغطية والتحليل المكثف في شكل يومي. لكن أهم هذه المؤشرات حجم وشمولية الاتفاقات الـ14 التي تم التوقيع عليها. فإن هذه شملت الاستثمارات المشتركة والطاقة والاقتصاد وهو أمر متوقع لأهم بلدين مصدرين للنفط في العالم. الجديد والأكثر دلالة على ما يمكن أن تمثله الزيارة أنها شملت للمرة الأولى التعاون العسكري والتقني بين البلدين. يعزز ذلك تصريح المتحدث الرئاسي الروسي ديميتري بيسكوف بأن «التعاون التقني والعسكري بين السعودية وروسيا سيستمر، وأنه ليس موجهاً ضد أي طرف ثالث، بقدر ما أنه لتعزيز التعاون بين البلدين ودعم الاستقرار في المنطقة». هذه لغة جديدة على القاموس السياسي للمنطقة. وهي لغة غير مسبوقة في العلاقة بين الطرفين، خصوصاً الطرف السعودي وهو المرتبط بتحالف قديم مع الولايات المتحدة الأميركية.
تشير مجريات الزيارة الملكية ونتائجها حتى الآن إلى أن كلاً من السعودية وروسيا في حاجة كبيرة لكل منهما في الظروف السائدة إقليمياً ودولياً. فروسيا في حاجة إلى السعودية بما تمثله لتعزيز دور موسكو المستجد في المنطقة من خلال البوابة السورية، ومحاولتها ملء الفراغ الذي تركه الانكفاء الأميركي، وتجيير هذا الانكفاء لمصالح روسيا الاستراتيجية في الشرق الأوسط وأوروبا. كان في متناول الرئيس فلاديمير بوتين كسب موقف إيران إلى جانبه بسهولة، وهي التي سبقته إلى المسرح السوري لدعم بشار الأسد. لكنه كان يدرك بحسه الاستراتيجي أنه في حاجة أيضاً إلى تركيا، الدولة الكبيرة والمجاورة بحدود طويلة لسورية. الغريب أن واشنطن، ومعها حلف الناتو الذي تتمتع تركيا بعضويته، دفعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للتعاون مع روسيا والتفاهم معها حول الحل السياسي المطلوب في سورية. كانت تركيا تعارض التدخل العسكري الروسي في سورية في خريف ٢٠١٥ لمصلحة الأسد. وكان بوتين يعرف ذلك جيداً. ولهذا السبب كانت الطائرات الروسية تخترق المجال الجوي التركي أثناء عملها في الأجواء السورية، في محاولة لإيصال رسائل سياسية إلى أنقرة، والضغط عليها إما للابتعاد من الصراع في سورية ووقف دعمها المعارضة المسلحة هناك، أو للتفاهم مع موسكو بدلاً من الاصطدام معها حول هذا الملف. على خلفية ذلك، ونظراً لأن أردوغان رفض الرسائل الروسية وتحدياً لهذه الرسائل، أسقط سلاح الجو التركي طائرة السوخوي الروسية، ما اعتبرته أنقرة دفاعاً عن مجالها الجوي. عندذاك اقترب البلدان من صدام أكبر من ذلك. انتظرت تركيا الدعم من أميركا ومن حلف الناتو. لكن تبين لها أن ما كانت تنتظره أقرب إلى السراب. لذلك تحولت السياسة التركية في اتجاه التعاون مع موسكو حول الملف السوري، وقبل أردوغان بالعمل ضمن الخطة العسكرية لروسيا في هذا الملف. ولعله من الواضح أن هذا تم ضمن تفاهمات سياسية لم تكشف كل تفاصيلها، خصوصاً ما يتعلق منها بمستقبل بشار الأسد.
بذلك كسبت روسيا تعاون كل من إيران وتركيا. لكن بقي تعاون السعودية، الطرف الثالث الوازن في الأزمة السورية، وفي المنطقة. ومرة أخرى يلقي الانكفاء الأميركي بظله على مواقف هذا الطرف، خصوصاً بالنسبة للدور الإيراني، وهو دور مدمر في هذه الأزمة التي تزداد تعقيداً. لا تستطيع السعودية التنازل عن كل أهدافها ومصالحها في الحل المنشود في سورية. كانت دائماً مع الحل السياسي هناك، ومع الحفاظ على وحدة سورية واستقلالها. فهي تدرك قبل غيرها خطورة مشاريع وتوجهات التقسيم في المنطقة. وتدرك قبل ذلك وبعده أن التقسيم يخدم السياسة الإيرانية، لأنه يوفر لها جيوباً وفراغات سياسية ومذهبية تسمح لها بالاستمرار في التدخل، ونشر ميليشياتها على نحو أوسع. لكنها في الوقت ذاته لا يمكن أن تقبل في إطار وحدة سورية ببقاء الرئيس السوري، وكأن شيئاً لم يكن. فالأسد على رغم اعتماده في الظروف الحالية على الروس، إلا أنه في نهاية المطاف بات ورقة إيرانية، ولعلها الورقة الوحيدة والأهم بالنسبة لإيران. ولذلك لا يمكن السعودية القبول ببقاء ما أسماه يوماً وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل، بالاحتلال الإيراني في سورية. في الوقت ذاته لا تستطيع الرياض، في ظل الانكفاء الأميركي والانقسام العربي الحاد حول ملفات المنطقة بما فيها سورية، الاصطدام مع روسيا، لأنها بذلك تعزل نفسها إقليمياً ودولياً. كان لا بد تحت هذه الظروف والمعطيات السائدة من التفاهم مع الروس حول الملف السوري، وملفات أخرى مهمة. وقد أوضح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، هذا الملمح في حديثه للإعلام الروسي بأن السعودية تعمل مع روسيا «على تقريب موقفينا من أجل السلام في سورية». وفي هذا إشارة واضحة إلى تغير ما في الموقف السعودي تجاه الأزمة هناك.
ومع أنه ليس واضحاً بعد مدى هذا التغير وحدوده، إلا أنه من الصعب القول إن هذا التغير يطاول الثوابت والمصالح السعودية في الشام. وهذا ما أكده الملك سلمان في كلمته أمام اجتماع القمة مع الرئيس بوتين. إذ أكد فيها أمرين: ضرورة الحل السياسي في سورية على أساس من القرار الدولي ٢٢٥٤، وبيان جنيف الأول، وضرورة وقف التدخلات الإيرانية في الدول العربية. هذا هو الموقف السعودي الذي كان ولا يزال معلناً قبل قمة موسكو وبعدها. وعليه يمكن القول إن تصريح وزير الخارجية الجبير عن تقريب المواقف لا يخرج عن حدود هذا الموقف. طبعاً زيارة الملك لروسيا وما تمخض عنها من تفاهمات بعضها معلن، وبعضها الآخر ليس معلناً، ومن اتفاقات، كلها تشير إلى تقاطعات في مواقف البلدين، لن يمر وقت طويل قبل أن تتضح معالمها وحدودها.
لكن التوجه السعودي نحو روسيا في هذه الأيام لا يقتصر في دوافعه على الأزمة السورية. هناك مصالح أخرى لا تقل أهمية. يأتي في مقدمها الطاقة كون البلدين من أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم، واقتناع الرياض بأن الوقت حان لتنويع مروحة تحالفاتها الدولية، خصوصاً بعد انكفاء واشنطن وارتباك سياساتها تجاه الشرق الأوسط، وهو ارتباك بدأ مع إدارة جورج بوش الابن، ووصل ذروته مع إدارة أوباما، ولا يزال مستمراً مع إدارة ترامب. في مثل هذا الوضع، ليس من مصلحة الرياض دفع موسكو للاعتماد في دورها خصوصاً في الشام على إيران وتركيا، وبمعزل عن الدول العربية، وهي صاحبة الأرض والمصلحة قبل غيرها. يمكن القول طبعاً إن السعودية تأخرت في خطوتها نحو روسيا. تصور لو أن الرياض اتخذت خطوتها الحالية مع موسكو عام ٢٠١١. الأرجح أن الوضع في المنطقة، بما في ذلك سورية، سيكون مختلفاً لمصلحة الرياض والعرب جميعاً. لكن مع ذلك، فإن الزيارة الملكية، وما تمخضت عنه، أكدت أن تأخر الرياض لم يؤد بعد إلى انعدام خياراتها مع روسيا.
وإذا ما استمر وتعمق التوجه الذي بدأ مع زيارة الملك، فإنه يعكس حجم التحول النوعي في علاقات البلدين، خصوصاً على الجانب السعودي. وهو تحول يعكس ما يحصل لخريطة العلاقات الإقليمية والدولية.
كان يقال إن السعودية أخطأت كثيراً، عندما ابتعدت من الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة. كان بإمكانها آنذاك، وفق هذا الرأي، أن توازن شراكتها مع الولايات المتحدة بالعلاقة مع قطب المعسكر الشرقي وهو تحت حكم الحزب الشيوعي، وفي زمن تلك الحرب. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن زيارة الملك سلمان تكون استعادت ما كان مفترضاً أن يحصل في الماضي في ظروف ربما أفضل مما كانت عليه في ذلك الماضي.
بقي سؤال يشغل المراقبين. هل تتقبل واشنطن ما يبدو أنه انعطافة غير مسبوقة في علاقات الرياض وموسكو؟ وماذا سيكون تأثير ذلك في علاقات الرياض مع واشنطن، وهي الأقدم؟ قد لا ترتاح واشنطن لما حصل، لكنها تدرك أن الرياض لن تتعامل مع موسكو على حساب علاقتها معها. كما أنها تدرك أن سياساتها تجاه المنطقة، خصوصاً في العراق وسورية، كانت أحد العوامل التي مهدت لهذه الانعطافة. ربما أن أبرز ما أكدته الزيارة الملكية لروسيا أن السياسة الخارجية السعودية تتسم بالبراغماتية، وأنها في الأخير ليست رهينة لتحالفاتها وشراكاتها، حتى مع الولايات المتحدة.