عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – لا أعتقد أن القضية الفلسطينية المعاصرة عرفت خطاباً شاملاً كاملاً فاعلاً موضوعياً عميقاً و دقيقاً تناولها ليجسد فهم أهلها وقيادتها مع العالم كما كان خطاب الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة، وأستطيع القول انه ليس تاريخياً فقط وإنما مستقبلياً . أضاء مساحات واسعة من واقع مظلم ومعقد وظالم و أراد أن يقدمه للعالم من أجل المساعدة على إعادة صياغة هذا الواقع المرير المتمثل في إستمرار الإحتلال الفاشي للشعب والأرض الفلسطينية.
حلق الرئيس في أجواء مختلفة بعضها صعب وفيه مطبات كبيرة ومعقدة، ولكنه أثبت شجاعته وجرأته المعروفة التي ظل يغطيها بكلام موزون وعبارات منتقاة وبوقار في المحيا ولون في الشعر وتهذيب وأناقة ..
كلمات الرئيس عباس ساخنة وعميقة، وهي أبلغ من كل العنتريات وحتى كثير من الرصاص الذي يحمل الشعارات ويقصر عن إصابة أهدافه ..
تحدث في خط التماس وأصاب حقائق ظل مهروباً منها أو مغفل عنها ولكنه طرقها .. لقد عالج قضايا تاريخية ظلت جائرة وظالمة كوعد بلفور وحمل الأطراف المعنية مسؤولياتهم وفضح نواياهم القديمة والقائمة ورجم الدولة الإستعمارية الكبرى بحجارة نقد قوية أمام المجتمع الدولي كله وأستعان بمثل جنوب أفريقيا التي استعمرتها بريطانيا ومكنت البيض فيها إلى أن جاء اليوم الموعود بطرد البيض العنصريين وتصفية تراث الابارتايد وكانت ولادة الثائر وسيرة حياته المناضلة نيلسون مانديلا الذي ألهم الرئيس عباس ومسيرة النضال الفلسطينية فاستشهد به وبعبارته الشهيرة (لا يكتمل نصرنا إلا بنصر الشعب الفلسطيني) لقد كان التعبير صفعة لممثلي نظام الابارتايد الإسرائيلي ومن يدعمهم فالرئيس عباس موقن أن الحرية قادمة وأن الإحتلال إلى زوال وهو لا يرمي الشعارات جزافاً بل يربطها برؤيته القائمة على روافع السلام والتبشير به والإبتعاد عن العنف والسلاح الذي ظلت إسرائيل وطغمتها العسكرية تسحب الشعب الفلسطيني إلى إستعماله في مواجهتها دون أن تكون الظروف الذاتية أو الموضوعية ناجزة لتظل تجتث إستعداداته وتمنعه من التطور والنمو والبقاء والحياة الإنسانية اللائقة التي تؤهله كشعب صنو الشعوب الأخرى ..
كان الرئيس أبو مازن وهو رأس مدرسة نضالية فلسطينية، قد أدرك تجاه تجربته العميقة في مرحلة خوض النضال التحرري منذ إنطلاقة فتح في مراحل ما قبل العودة للوطن، ان هناك طرق أخرى غير الرصاص وأن أشكالاً مختلفة من النضال مع الطرف الآخر مهما كان معادياً، قد تحفر في الصخر متخذاً من قطرة الماء التي تواصل سقوطها على الصخر نموذجاً ومستلهماً كفاح غاندي وأسلوب النمل الذي بشر به الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد ..
لاني لست كالكبريت أضيء لمرة .. وأموت
ولكني كنيران المجوس أضيء من مهدي إلى لحدي .. ومن سلفي .. إلى نسلي
طويل كالمدى نفسي وأتقن حرفة النمل .. على مهلي
لأن وظيفة التاريخ أن يمشي كما نملي
يؤمن صاحب الخطاب أن التراكم ضروري للكفاح، وأن إشراك الشعب كله بكل فئاته وطبقاته وألوان ثقافته ضروري أيضاً للإنخراط في المواجهة المدنية والسلمية ..
والرئيس أبو مازن لا يمل من إستعمال كلمة السلمية وإتخاذها أسلوباً مهما طال طريقها وتعقد، وهو يواصل إشهارها في طريق الكفاح الفلسطيني لأنه يدرك أنه يخاطب قلعة إسرائيلية مدججة بالسلاح، وتريد إستمرار المنازلة مع شعب أعزل لا يملك إلا صبره وإرادته وإصراره على الحياة ..
والرئيس في الخطاب يتساءل أمام سياسة التهويد والأسرلة الإسرائيلية في القدس منذ عام 1967 ،حيث قامت إسرائيل بضمها ومواصلة إحتلالها بأساليب غير قانونية أين نذهب إذن؟! ويجيب ليخدم رؤيته ورؤية الكثيرين ممن يؤمنون برؤيته ويقطع الطريق بشجاعة على الذين يريدون لرؤيته الموت والدم والهزيمة أن تستمر باستعداء الآلة العسكرية الإسرائيلية على المدنيين والعزل الفلسطينين كما في نموذج غزة حيث يستمر النزف والحريق والحصار .. يجيب الرئيس بوضوح “لن نذهب للإرهاب والعنف .. فالقدس مدينة محتلة وقرارات إسرائيل وإجراءاتها فيها باطلة ولاغية وغير قانونية من البداية للنهاية”.
إسرائيل تريد للفلسطينيين الآن وفي أوضاعهم الذاتية المحاصرة والموضوعية التي يشكل الإقليم العربي المحترق إضافة سلبية فيها أن يشتبكوا معها بشروطها، ولكن الرئيس لا يريد أن يصارع إسرائيل بمفرده أو بالإمكانيات المحدودة لشعبه الأعزل تحت الإحتلال ولكن بكل الطاقة العالمية الإنسانية الحية وبكل ما تدركه الأمم المتحدة من مخاطر الإحتلال وسياسته الأبارتايد وهو يجند العالم في خطابه لذلك ويدفعهم لتحمل مسؤولياتهم بإسلوب يستفز العدوانية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بأكثر مما تستفزها الصواريخ البدائية التي لا تصيب الأهداف وأنما تحول إسرائيل وبمبررات وذرائع إلى وحش نازي ينقض على أطفال الفلسطينيين ومنازلهم ومقتنياتهم ليضعها كلها برسم التدمير والقتل والحصار المستمر وسط فرجة دولية لا تنتهي ..
وحتى لا يفسر كلام الرئيس أبو مازن الذي له تأثير كبير في المجتمع الدولي على أن تحذيراته وما دعى إليه حين قال”وقد نجد أنفسنا مضطرين إلى إتخاذ خطوات أو البحث في حلول بديلة لكي نحافظ على وجودنا الوطني وفي ذات الوقت نبقي الأفاق مفتوحة لتحقيق السلام والأمن لكن كل الخيارات التي نبحث عنها ستكون سلمية”.
نعم ارادها سلمية من أشكال متعددة في الكفاح والنضال حيث يملك الفلسطينيون الكثير من ذلك وليس الخيار الذي عرضه حربا او عمليات عسكرية لأنه يدرك ماذا تريد اسرائيل في هذه المرحلة وما هي المبررات التي تختبئ وراء ها ولماذا اختارت ان يدخل شارون المسجد الاقصى وان تدفع باتجاه انتفاضة عسكرية مسلحة قطفت هي ثمارها.
وما زلت اذكر تعبيرا للملك الحسين الراحل قاله لي حين استقبلني في مكتبه ليكرمني بعد مؤتمر مدريد عام 1990 ( لو أننا نعمل من اجل ان تخلع اسرائيل الملابس العسكرية وتترك “الفوتيك” لانتهت) وهو تعبير ذكي يصب في رؤية الرئيس ابو مازن الذي يدرك ان اسرائيل مخلوق عسكري مسلح لا يعيش إلا بالحروب وعلى الحروب وان تعريفه لدعوات السلام والضغط عليه من اجل ذلك يفقده مبرر وجوده ومناعته ويجعله في مصاف المخلوقات الاخرى التي لا يستطيع العدوان وممارسة الاحتلال..
وفي هذا السياق ظلت اسرائيل ترغب ان يكون التطرف والعنف والجريمة شعار الفلسطينيين لتمارس ضدهم العدوان وظلت ترغب لن تعطي القيادات الفلسطينية المبررات لها لتستعد وتقوى وتقتل وتغتال وتحتل وتفتك حين يكتفي الفلسطينييون بالشعارات الصاخبة.
ولذا كانت اسرائيل تغتال وتقتل من القيادات الفلسطينية كل من امتلك مشروعا او دعاها للسلام او طالبها بحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة وبحقه في تقرير مصيره ،وظل اؤلئك الذين طالبوا بالصدام المسلح معها دون خطط يعيشون ويموتون على فراشهم كما يموت البعير.
فقد قتلت قادة ناضلوا بسلمية وآمنوا بحقوق شعبهم فناصرهم العالم وانتصر لهم، ووضعوا كفاح شعبهم ومقاومته في اساليب يقبلها العالم ويبررها .. قتلت اسرائيل عصام سرطاوي وماجد ابو شرار وخضير الكبيسي وابو جهاد والرئيس عرفات وغيرهم كثيرون ابو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر وتركت اخرين يموتون بهدوء واكتفت منهم بانتزاع مبررات لاستمرار صراعها ولا اريد هنا ان اتوقف عند اسماء.
اذن السلمية التي يدعو لها الرئيس ابو مازن في خطابه ويشدد عليها ليست سلمية العجز والخذلان والاستسلام وانما السلمية التي ينتصر لها العالم والتي تفقد اسرائيل ذرائعها في القتل والاقتلاع وان تعمل في الضفة الغربية كالنموذج الذي عملته في غزة دون ان تدرك غزة اهدافها إلا اذا اراد البعض استمرار الهتاف للقدس ماشين شهداء بالملايين دون ان يدركوا ان مضمون ذلك هو الحياة اولا والحرية اولا وتحرير القدس اولا وليس الموت اولا واعتباره هدفا في حد ذاته.
السلمية عند الرئيس عباس مفهوم سياسي وكفاحي وانساني واستراتيجي وثقافي عميق الدلالة وهو لغته المشتركة مع العالم والجسر الذي يعبر فيه لتظل قضية فلسطين وشعبها في دائرة النضال حتى طرد الاحتلال..
غدا نواصل
http://www.youtube.com/watch?v=9yKO2iz1cUQ