ثمة شيء محير فعلاً في الممارسات الانتصارية التي تشهدها دول المشرق الثلاث، أي العراق وسورية ولبنان. فالتحقق من أن النصر تم لأصحابه يجري كل صباح، بما يوحي بأن المنتصر مرتاب بنصره، ويريد أن يمارسه استباقاً لانكشافه. أو هو يريد أن يثبت شيئاً في هذا الوقت القصير الذي هو عمر النصر.
المنتصر غير أريحي على ما هي عادة المنتصرين، ولا يريد للمهزومين غير هزيمتهم. والمنتصر يبدو مستعجلاً، فما أن ينهي معركة صغيرة حتى يطوبها فتحاً. هو مبدئياً لا يحتاج إلى ذلك، لكنه يفعله. حزب الله لا يحتاج لأن يقول أن معركة الجرود هي النصر الثاني بعد النصر الأول في عام 2006 على إسرائيل. فهو في قوله ذلك عرض نصر تموز لمساءلة تشبه المساءلات التي تعرض لها نصر الجرود. وعلى رغم ذلك لم يتردد الحزب في تطويب «نصر الجرود» نصراً ثانياً.
الضيف الإيراني على محطة التلفزيون الموالية لطهران، لم يكن بحاجة لأن يقول للضيف الآخر الكردي العراقي «أنا أحدثك من هنا من بيروت وأقول لك أن أكراد إيران لا يتعرضون لاضطهاد». بيروت بحسبه العاصمة الرابعة بعد طهران وبغداد ودمشق، التي يمكن لضيف إيراني أن يرفع إصبعه منها ملوحاً بأن النصر قد تم واكتمل. ناهيك عن أن إيران كان بإمكانها أن تمارس النصر في العراق من دون أن تعلنه على شكل صور عاشورائية تجتاح مناطق السنة «المهزومين».
ليست هذه نرجسية المنتصر، ذاك أن للنرجسية صوراً أكثر خبثاً وذكاء. ثمة شعور مركب هنا. ثمة هزيمة أصلية تجثم على صدر المنتصر وتجعله غير مستوعب نصره، وفي مقابل ذلك ثمة شيء غير منطقي، وإن كان واقعياً، في مشهد النصر هذا. فالانتصار على الجماعة الأكثر عدداً في المنطقة يُنذر بانقلاب وشيك، ويؤسس لانعدام في التوازن لا يُطمئن.
السهولة التي يتم فيها إشهار النوايا في ظل النصر تدفع إلى التأمل في حال المنتصر. فسرعان ما تحول «الجسر الإمبراطوري» الذي ربط طهران ببيروت عبر العراق وسورية من وظيفته العسكرية، إلى صلة وصل مذهبية. الأمر كان يحتاج إلى بعض الوقت حتى تُدعم قواعد الجسر، لكن الذي جرى أن التحول لم ينتظر كثيراً حتى كشف عن وظيفته الأخرى. صار اليوم الطريق الذي سلكه الضيف الإيراني على محطة التلفزيون اللبنانية لكي يصل إلى بيروت ويؤشر منها بإصبعه للضيف الكردي. وعبر نفس الجسر جرى نقل عدة التشيع الجديد للشيعة اللبنانيين، وها نحن ننتظر عاشوراء غير تلك التي كنا نعيشها في السنوات اللبنانية لهذه المناسبة.
المهمة لم تنتظر اكتمال النصر ونضوجه وتحوله سياسة. المنتصر مستعجل ولا وقت لديه لكي تســـتقر الجماعات على واقعها الجديد. في العراق تشــــــهد الموصل تسريعاً لخطوات الحشد الشعبي في إخضاع المدينة، وفي ســـورية قال رئيس النظام هناك إن الملايين الذين هُجروا لن يعودوا لأن عودتهم ستطيح «انسجاماً اجتماعياً» أرســاه اقتلاعهم من بلادهــم، وفي لبنان تجول سيارات المنتصرين في أحــياء المـــهزومين رافـــعة رايات عاشورائية جديدة ومستقدمة عبر الجسر الإمبراطوري.
ثمة استثمار سيىء للنصر العسكري، وهو استثمار مهدد لدوامه، ذاك أن النظام الذي اهتز في السنوات العشر الأخيرة وعاد والتقط أنفاسه، يُكرر أخطاء كادت تطيحه. فمن غير الفطنة جعل الشعيرة المذهبية بيرق النصر الوحيد، وتوسيع دائرة المهزومين يفتح شهية الراغبين في الانتقام. ويشهد على هذه الحقيقة حلفاء المنتصر من أبناء الجماعة المهزومة، إذ إن أصواتهم سرعان ما بدأت تصدر طالبة التروي استباقاً لانقلاب يلوح.
المشهد يسوده خلل كبير. النصر أنشأ اختلالاً هائلاً في التوازن. الضبط الديموغرافي نجح في تدمير مدن المهزومين، إلا أنه لم ينجح في إزاحتهم من طريق الجسر المذهبي الجديد. ملايين السكان انتقلوا من المدن إلى مخيمات في جوارها. المنتصر سيتعثر بهؤلاء النازحين قريباً. لا بل هو بدأ يتعثر. نزوح ملايين السنة من أرياف دمشق وحمص إلى لبنان أعفى حاكم دمشق من عبئهم المذهبي، لكنه أخل بتوازن ديموغرافي لبناني مهدد مستقبلاً لتفوق حزب الله. الأمر نفسه في الموصل، ذاك أن أهل الساحل الأيمن يقيمون اليوم في مخيمات ليست بعيدة عن مدينتهم، وسيعودون قريباً جزءاً من الحساب المذهبي.
لا يقيم المنتصر حساباً لهذا الاختلال الكبير الذي لن يكون في مصلحته في المستقبل القريب. لا يسعى إلى تأسيس نفوذ يعدل من أخطاره. يذهب في نصره إلى أقصاه، رافعاً شعيرة مذهبية لن تدفع المهزوم إلى التعامل بواقعية مع هزيمته.
ثم أن طغيان مشهد الانتصار يُغفل حقيقة أخرى، تتمثل في أن مساحات جغرافية وديموغرافية هائلة ما زالت خارج مشهده. القول أن النصر تم، صحيح إذا ما نظر المرء إلى المشهد من خارجه. أما من داخله فهناك الآلاف من الوقائع تؤشر إلى غير ذلك. فمدينة طرابلس اللبنانية مثلاً، يمكن أن يُمارس النصر عليها من خارجها، أما من داخلها فثمة وقائع تجري بعيداً من تأثير المنتصر. ويصح ذلك على مدن ومخيمات وتجمعات كثيرة، فيما ترسل المناطق التي يُمارس فيها الانتصار صورها مؤسسة لضغائن لا يبدو أن ثمة راغباً في التعامل معها.
السياسة لا تُفسر ما يجري، واستيعاب نصر ملتبس يحتاج إلى منتصر حكيم. نحن هنا حيال «نفس جماعية» تمارس النصر وهي مدركة استحالة تحوله حكماً وسلطة ومستقبلاً. أما السياسة هنا فتكمن فقط في أن ثمة راعياً لهذا النصر غير معني بمســـتقبل الجماعات المتناحرة في هذا الإقليم، لا بل هو راغب بتحطيمها. راع لا يمت إلى طبيعة العلاقات التي تربط الجماعات الأهلية بغير علاقة أيديولوجية سرعان ما يتم ابتذالها في نزاع مذهبي ها نحن نشهد اليوم ذروة صوره.
كل هذا لا يُلغي الذهول الذي يخلفه شعور المنتصر بأن نصره وجبة سريعة عليه هضمها على نحو سريع.