من قرابة 50 مركز دراسات وتفكير عالمي اجتمع عشرات الباحثين والخبراء، في عمان، خلال جلسات مؤتمر نظمه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، لدراسة التحديات والمشكلات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واقتراح الاستراتيجيات والتغييرات السياسية المطلوبة للتعامل معها.
عاين الباحثون من زوايا مختلفة ومتعددة تلك المشكلات والتحولات، ما أتاح لنا رؤية زوايا متعددة ومتنوعة من الموضوع، سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً وأمنياً، من الداخل والخارج، التجارب الإقليمية (على صعيد أكثر من دولة) والتجارب المحلية، وبالنتيجة كان تبادل الخبرات مفيدا ومهما للجميع.
لكن من يهتم؟ طالما أن الحكومات العربية ما تزال لا تؤمن بدور مراكز التفكير والدراسات في الإشارة إلى المشكلات والأزمات والحلول المقترحة، وبعبارة أدق بأهمية المعرفية العلمية والبحث العلمي في إرشاد صانع القرار وترشيده باتجاه الخيارات المطروحة والتغذية العكسية، فما فائدة تلك المراكز والبحوث وأهمية ما تقوم به، وهي الجسر المفترض، أو الوهمي، في العالم العربي بين السياسة والمعرفة والخبرات العلمية والأكاديمية.
طالما أنّ الجسر غير موجود، فهنالك إذاً وادٍ سحيق عميق بين السياسيين صناع القرار عموماً والمفكرين الباحثين والأكاديميين، الذين من المفترض أن يقدموا إطاراً عاماً بعيد المدى لصنّاع القرار ليساعدهم على تجاوز السياسات الآنية قصيرة المدى والنظر إلى أبعد نقطة ممكنة.
من الإشارات الذكية التي قدّمها مدير مركز الدراسات الاستراتيجية، الصديق والزميل موسى شتيوي، تعليقاً على العلاقة بين مراكز التفكير وصناع القرار، هي ما يتعلق بالربيع العربي، إذ اتهم السياسيون الباحثين والخبراء بالفشل في التنبؤ بتلك الثورات، وكأنهم كانوا يكترثون أصلاً بتلك التوصيات والدراسات، لكن – كما ذكر شتيوي- فإن المراكز والدراسات كانت تشير إلى وجود اختلالات خطيرة ستؤدي إلى أمر ما، وتشخّص الأوضاع القائمة، بما يساعد في تجنب الأخطاء والخطايا التي حدثت، وما تزال، لكن لأن من يقرأ من المسؤولين قليلون لم يلتفت أحد إلى تلك الإنذارات المبكرة.
لفت انتباهي، للأسف الشديد، الفرق الكبير في اتجاهات نسبة كبيرة من الباحثين العرب والغربيين، ما ظهر خلال المؤتمر، ويرتبط بصورة رئيسة بالاستقلالية والعقلية النقدية، فما يزال باحثون ومراكز دراسات عربية يسيرون في ركاب تبرير سياسات السلطات وترويجها، من دون القدرة على بناء رؤية نقدية عميقة لتلك السياسات، بما يخدم المجتمعات أو حتى تلك الأنظمة كي لا تكرر الحماقات التي حدثت سابقاً خلال العقود الماضية في العالم العربي.
تلك المشكلة، أي استقلالية مراكز الدراسات والتفكير، يمكن طرحها من الجهة المقابلة تماماً، أي مدى إدراك الحكومات لأهمية مراكز البحث والتفكير، بوصفها مؤسسات معرفية مستقلة تنتج علماً وأفكاراً وخيارات عقلانية، وليست شركات علاقات عامة لتجميل الصورة، وتبرير السياسات الرسمية.
للأمانة كلمة الأمير الحسن، التي ألقاها بالنيابة عنه، د. عدنان بدران، في افتتاح المؤتمر متميزة، أعاد فيها صوغ التحديات والمشكلات من خارج المنظور التنافسي السياسي والصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة، إلى المنظور الإنساني، أو من الزاوية الإنسانية وهي التي تدفع الكلفة الكبيرة من خلال الهجرات ونضوب المصادر الطبيعية وتبديدها وكوارث الصراعات على حياة المجتمعات والشعوب ومشكلات كبيرة مثل الماء والتعليم والأمن المجتمعي وهي الملفات المصيرية التي تحدد ليس فقط مستقبل المنطقة بل مصيرها بأسره.
ولعل أهم ما طرحه الحسن، وهو مفكر نعتزّ به، مفهوم الأمن الإنساني، أي توسيع المنظور الأمني الحالي إلى مستوى أعمق وأبعد من تفكير الأنظمة العربية والقوى الكبرى.
ذلك كله يستدعي، كما قال الحسن، تغيير العقلية التي نقارب بها المشكلات الراهنة، لأننا باختصار نسير من سيئ إلى أسوأ.