حتى الآن ،ليس واضحاً فيما إذا كانت الحكومة قد التزمت نهائياً أمام صندوق النقد الدولي بتغطية العجز المتبقي في الموازنة من خلال رفع الضريبة على الدخل الذي يتجاوز 500 دينار شهرياً، أم أن الحكومة لم تلتزم بهذا الإجراء بالذات ،ولا تزال تدرس البدائل والامكانات ،و تطلق بالونات الإختبار هنا و هناك لتوفير العجز غير المغطى و البالغ 400 مليون دينارا.هذه مسألة.
المسألة الثانية إن عدم إكتراث الإدارات الرسمية على مدى السنوات الماضية بارتفاع الأسعار في كل شيء تقريباً، مما جعل عمان ثالث أغلى عاصمة عربية ، وعدم دخول الإدارات بدراسات تفصيلية لمعرفة الأسباب ووضع الحلول اللازمة في كل قطاع ،كل ذلك جعل الأعباء المعيشية على المواطن تتراكم وتتفاقم إلى الدرجة التي أصبح فيها متوسط الدخل لقطاع كبير من المواطنين غير كاف لمواجهة المتطلبات الأساسية اليومية، و جعل المواطن العادي غير قادر على احتمال ضرائب جديدة، بل يقف على حافة الخروج عن المألوف. المسألة الثالثة أن هناك إصرار غريب من الإدارات المتعاقبة على معالجة “المسألة المالية” بعيدا عن “المسألة الإقتصادية” ، و التركيز على مواجهة عجز الموازنة من خلال طريق مسدود يتمثل في الضرائب، ورفع الأسعار، و المساعدات و الإقتراض و التي لها حدود لا يمكن تجاوزها. ولذا تتجدد المشكلة عاما بعد عام، و هذه من بديهيات قواعد الإدارة المالية الإقتصادية.المسألة الرابعة أن “ضآلة معدل النمو الاقتصادي 2% على مدى سنوات عديدة و اتساع رقعة الفقر و البطالة لم يشكل صدمة لأي حكومة فيحفزها على تنفيذ برنامج إقتصادي إجتماعي عاجل” لمواجهة هذه الضآلة المزمنة، و التي تدل على إختيار الطريق الخطأ . و هذا جعل نصيب الفرد من الدخل الوطني في تناقص مستمر ،في إطار الزيادة السكانية الكبيرة وتدفق اللاجئين. وقد فاقم كل ذلك حالة إغلاق الحدود مع سوريا والعراق وانفلات حركات التطرف و الإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة.
و منذ بداية الحروب و الصراعات الأهلية في ليبيا و سوريا و العراق قبل 6 سنوات، أكد الخبراء إن تعليق الإصلاحات السياسية و الإقتصادية حتى تهدأ المنطقة وتتوقف الحروب الأهلية من حولنا ،سوف يؤدي إلى مزيد من المصاعب على المستوى الاقتصادي الاجتماعي. فالمنطقة سوف تستغرق سنوات قد تصل إلى 15 سنة حتى تصل إلى حالة الهدوء المنشود . هذا في نفس الوقت الذي تتراجع فيه المساعدات الدولية عاماً بعد عاما ،ويشتد التنافس على فرص العمل المحدودة أمام الشباب ،وتزداد صعوبة المعيشة في غياب الإستثمار في المشاريع الجديدة نتيجة للتعقيدات الإدارية، و انتشار الفساد الصغير الذي هو زيت التزييت و مسنن التحريك للفساد الكبير و التهربات المختلفة. هذا إضافة إلى صعوبات القضاء ،و غياب الشفافية و المشاركة، والاعتماد الكبير المتزايد على الاستيراد . و هي نفس الطريق التي أوصلت اليونان إلى ازمتها الحالية الخانقة. إن القاعدة التي كان ينبغي أن تنطلق منها الحكومات المتعاقبة هي كما قال الملك ” انه لن يساعدنا أحد أن لم نساعد أنفسنا “.فما هي وثيقة الحكومة للمساعدة الذاتية؟
لقد أصبح واضحاً للجميع إن زيادة الأعباء الضريبية على صغار ومتوسطي الدخل ستكون له نتائج سلبية اقتصادياً واجتماعياً، كما أنه يحمل نوعا من الإنزلاق التقليدي نحو الحلول السهلة ظاهريا،و الخطيرة في الجوهر، ويشير إلى عدم الاكتراث بالبحث عن بدائل أخرى أكثر نجاعة و ديمومة. بدائل طبقتها دول كثيرة و نجحت فيها و خرجت من عنق الزجاجة.
و تأتي في مقدمة هذه البدائل : أولاً : تنشيط الاقتصاد الوطني من خلال الحل الناجز لمشكلات الشركات المتعثرة و المصانع المغلقة و المتوقفة وتلك المهاجرة. .ثانيا التوجه الجاد نحو التصنيع عموما القائم على مدخلات العلم و التكنولوجبا و الإبداع لزيادة القيمة المضافة في الصناعة و الزراعة و الخدمات،و تصنيع منتجات محلية تكفي بداية متطلبات الاستهلاك المحلي لتتوسع فيما بعد إلى التصدير و تخفيض المستوردات. وبديهي أنه دون تحسن الأداء الاقتصادي من خلال الانتاج والتصنيع و دخول الحكومة كشريك في الإستثمار و خاصة في المحافظات، فإن الأزمة سوف تستمر، بل و تتضخم عاما بعد عام . ثالثاُ : مواجهة التهرب الضريبي للشركات والأفراد عالي الدخول والذي تصل قيمته بتقدير وزارة المالية إلى ما يقرب من 900 مليون دينار سنوياً. و لا يعقل أبدا في زمن الحكومة الإلكترونية و ترابط الشبكات و المعلومات، و تشبيك البنوك ،و الرقابة المصرفية الإلكترونية على المستوى الدولي ،و التتبع الإلكتروني للثروات الثابتة و المنقولة ،أن تعجز الحكومة عن ايقاف هذا التهرب و وضع حد للفساد الذي يرافقه. رابعا: وضع رسوم إضافية 12% على شراء وبيع العقارات و الموجودات الثابتة الأخرى لغير الأردنيين، مقابل الخدمات التي تقدمها الدولة لهم.خامسا: وضع رسوم على بيع وشراء الأسهم في سوق الأوراق المالية و خاصة للأموال السخنة كما هو معمول به في كثير من دول العالم.سادسا: ربط رسوم التعدين بالسعر العالمي للخامات المعدنة لتكون في حدود 33% من متوسط سعر الخام على مدى عام كامل.سابعا: مراجعة حالة السياحة الداخلية بما فيها الأرياف من حيث المستوى و النوعية و الخدمات و الكلفة، و الإستعانة بالخبراء المبدعين في هذا المجال. و هي واحد من المداخل الرئيسية لتنمية المحافظات .أن آلاف الأردنيين لا يجدون فرصة للسياحة الداخلية بسبب ارتفاع كلفتها، وأصبح من الأرخص للمواطن أن يسافر سائحاً إلى العديد من البلاد الأجنبية، بدلاً من العقبة أو البحر الميت أو عجلون.
إن حماية الطبقة الوسطى و تنميتها التي أكد عليها الملك في مقابلته مع وكالة الأنباء الأردنية لا تتحقق اطلاقاً دون دور قيادي فاعل للحكومة، يدفع باتجاه انخراط هذه الطبقة في الاقتصاد والانتاج الذي تبدع فيه، والمشاريع التي تبادر اليها، والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة التي تقيمها، بل والثقافة المجتمعية التي تتشكل من أفكارها و ممارساتها و رؤاها.
إنه من غير الممكن النظر إلى المستقبل من خلال ثقب ضيق هو الضرائب. الأمر الذي يتطلب مخاطبة واضحة وصريحة من الحكومة إلى الجمهور بهدف تجسير فجوة الثقة،و حتى يخرج الناس من حالة التوقع والتأهب والاستنفار إلى حالة العمل الهادئ والمفيد. كما يتطلب عقد لقاءات مع النواب و ممثلي الأحزاب و منظمات المجتمع المدني و الخبراء و الإعلام للخروج برؤية وطنية غير مشتتة و التوافق على البدائل الأكثر عملية و فاعلية لمواجهة المشكلة، ليس فقط للسنة المالية القادمة و إنما بصورة دائمة.