بدخول القوات العراقية مدينة “تلعفر” و حسم معركة “العياضية”، وسيطرتها على كامل القضاء، تكون داعش قد فقدت آخر معاقلها الرئيسة في العراق ،وتصبح دير الزور و الرقة في سوريا و بمساحة لا تتجاوز 17% من سوريا هي المعقل الأخير للتنظيم، ولكن اين ذهب مقاتلو داعش؟ اين أسراهم؟ أين قتلاهم؟ ما هي اعدادهم؟ اين قياداتهم؟ أين وثائقهم و معداتهم و مراكز اتصالاتهم؟ كيف تتبخر هذه التكتلات التي دحرت جيوشا نظامية بمئات الآلاف، وسيطرت في أوج قوتها على 40% من سوريا و العراق؟ لا احد يعرف.. ولكن المؤكد أن الدول والدوائر الداعمة لهذا التنظيم ، والمحركة له ولتنظيمات موازية و مشابهة، راحت تدريجيا تسحب أموالها و رجالها وخبراءها العاملين مع داعش، باعتبار قرب انتهاء المهمة، وتكاد توقف التزويد بالمال والمعدات إلا ما يكفي للانسحاب والتغطية على فلول القوات الداعشية، وما ينطبق على داعش ينسحب إلى حد كبير على جبهة النصرة وعشرات المجموعات التي انتشرت في كل مكان في سوريا وبدرجة اقل في العراق.
وتدل الكثير من المؤشرات على أن مرحلة الحرب الساخنة والمتمثلة في”التدمير الممنهج للبلاد في كل من العراق و سوريا، والتفكيك المتواصل للدولة هناك، وتشتيت المجتمعات المحلية، والإزاحات الديموغرافية على أسس طائفية وعرقية، وإغراق المنطقة في عاصفة من التطرف والإرهاب”، هذه المرحلة تقترب من نهاياتها. وستأتي المرحلة الثانية” المتمثلة “بالتهدئة والمفاوضات حول مناطق النفوذ وتوزيع المغانم والمغارم خلال أشهر معدودة.
لقد شارك في القتال دول كبرى مثل روسيا التي نفذت 90 الف غارة جوية على سوريا، وتركيا على طول حدودها ومعابرها، وبريطنيا وفرنسا والولايات المتحددة التي وصلت ضرباتها الجوية إلى ما يقرب من 20 الف ضربة جوية في سوريا وما يماثلها في العراق، ودخلت ايران بجنودها ومعداتها وتمويلها الذي لم ينقطع، وحزب الله وميليشيات الحشد الشعبي. وقبل كل شيء، وبالخفاء، ساهمت اسرائيل بالتمويل والمعدات والخبراء العسكريين والخدمات الطبية والمعلومات،والتاثير على الإدارة الأمريكية بعدم حسم الموقف لصالح أي طرف قبل استكمال عمليات التدمير والتفكيك والتشتيت.إن النظام الحاكم في ايران، واليمين الصهيوني إسرائيل، فقط يعتقدان ان تدمير و تفكيك جارتيهما العراق و سوريا يصب في الأمن الاستراتيجي لهما، ويتوافق مع تطلعاتهما التوسعية، وإن كان هذا لايتفق مع مصالح الشعوب على المدى البعيد.
و يبدو أن الفرقاء الكبار، الولايات المتحدة وروسيا وايران وتركيا، وبعد أن تمركز كل فريق في منطقة معينة في سوريا اتفقوا بعد تهميش كل من حكومتي سوريا والعراق، والتغييب الكامل للدول العربية على الإنهاء التدريجي للعمليات العسكرية والدخول في العملية السياسية لتثبيت المواقع، ولتقاسم المكاسب، على محاور خمسة رئيسة الأول: المحور السوري. والذي يتمثل في الابقاء على نظام الاسد، باعتبار ذلك رمزاً للانتصار الروسي والايراني على الغرب بكامله، وعلى قوى المعارضة التي نجحت التدخلات الدولية في تفتيتها وتقسيمها إلى 4 منصات موزعة في الرياض والقاهرة وانقرة و موسكو. ومن المتوقع أن تكون خلاصة هذا المحور الخروج من الدولة المركزية كما كانت قبل 2011، والدخول في إدارات مناطقية تتحكم في قراراتها القوة الأجنبية المسيطرة، ولكن بصورة مجددة ومنقحة سواء من حيث التسميات أو الاشخاص أو الدستور الثاني: المحورالروسي. حيث ستحافظ روسيا على قواعدها البرية والبحرية وبذلك تكون قد ثبتت اقدامها في البحر المتوسط وستكون هي الحامي للنظام وهي التي ستملي عليه الكثير من القرارات السياسية والتوجهات الاقتصادية. الثالث: ايران، التي تجد نفسها في افضل وضع من حيث استمرارية التواجد الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان ومن الخليج العربي إلى البحر المتوسط. وسوف تركز على إحداث تغييرات ديموغرافية وطائفية لصالحها وستتابع تحريك وتوجيه الميليشيات والحركة الطائفية الرابع: الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها والذين سيكتفون بما يتحقق من الهدوء والانتهاء من الحرب الساخنة على داعش و السيطرة على قواعد ومساحات في الجنوب والشمال، وتقديم الدعم غير المباشر للطموحات الاسرائيلية. الخامس: المسألة الكردية فعلى الرغم من تأييد الولايات المتحدة لاستقلال الاكراد في العراق وسوريا إلا أن تضارب المصالح قد يجعل المفاوضات تنتهي إلى ما هو ادنى قليلا من الاستقلال. ذلك أن كلا من تركيا وايران تعارضان قيام دولة كردية في سوريا و العراق خشية من مطالبات اكراد تركيا واكراد ايران بدولة لكل منهما. وفي نفس الوقت فإن استقلال كردستان العراق ،وهذا تدعمه الولايات المتحدة واسرائيل بقوة، وتعارضه تركيا و تساوم عليه إيران، من شأنه أن يفتح الباب أمامها ليستقل جنوب العراق من خلال دولة شيعية تابعة تعزز حصار الخليج العربي من الشمال.
أما الجزء الأكثر تعقيداً في المسألة السياسية كلها فهو اسرائيل. لقد حققت اسرائيل ومنذ عام 2003حتى اليوم هدفين استراتيجيين بكلفة بسيطة جدا، كانا قبل 20 سنة مجرد حلم باهظ الكلفة بعيد المنال: الأول تحويل العراق إلى دولة فاشلة على وشك التفكك الطائفي والعرقي والاقتصادي. والثاني تدمير سوريا وتحويل أجزاء منها إلى أنقاض، وأخرى على وشك الانهيار وفتحها ساحة للارهاب والمساومات و الصراعات المسلحة الدولية. والسؤال ماذا تريد إسرائيل بعد؟ وكيف توفق بين ما تريده هي وبين ما يريده اللاعبون الاربعة الظاهرون على السطح؟ هل ستطمئن إلى وجود ايران في سوريا ولبنان؟ هل ستتقاسم المكاسب مع ايران و هذا احتمال غير بعيد؟ هل ستتغاضى عن اعادة بناء الدولة السورية أم ستكون ضاغطة باتجاه تقسيم سوريا من نوع ما؟ ما هي الضمانات التي ستطلبها؟ كل ذلك موضع مساومات سياسية لا احد يمكن أن يطمئن إلى نتائجها و من شأنها أن تطيل المساومات بين الأطراف لترسم مستقبلا لسوريا و العراق بعيدا عن المشاركة الحقيقية لشعبيهما.