قبل أن أخط سطراً واحداً في هذه المسألة المثيرة للخواطر والأسئلة الصعبة، سألت نفسي ما إذا كانت شؤون أملاك الكنيسة الارثوذكسية أمراً خاصاً لا يحق مناقشتها، أو التعرض لها، إلا من جانب أتباع هذه الكنيسة وقادة النخبة الارثوذكسية في الأردن وفلسطين، أم أن وتيرة بيع أملاك الوقف الكنسي المتزايدة في الآونة الأخيرة، باتت قضية رأي عام مطروحة على كل من يعنيهم تهويد الإرث الحضاري العربي في بيت المقدس خصوصاً، وفي الأراضي الفلسطينية عموماً؟.
وزاد من ترددي في الدخول على الخط، وأنا لا أملك المعطيات كافة، وليس لدي القدرة على سبر غور أوضاع تتيح للبطريرك اليوناني كل هذه السلطة المطلقة على شؤون رعيته، أن قليلاً من قادة الرأي والكتّاب في الاردن وفلسطين، وهم المخاطبون أساساً بهذا الخطر الدّاهم على هوية المدينة المقدسة، من خاضوا في غمار عمليات بيع مستمرة لأراضٍ وعقارات تحمل إرثاً دينياً وحضارياً لا يقدّر بثمن، الأمر الذي يزيد الانخراط في النقاش حرجاً فوق حرج.
كان لافتاً المظاهرة الاحتجاجية التي نظمها يوم السبت الماضي أبناء الطائفة الارثوذكسية، من مواطني القدس والضفة الغربية وعرب الـ48، في باب الخليل، وهو أحد أعرق أبواب المدينة المقدسة، رفضاً لبيع ثلاثة عقارات مهمة في المكان القريب من المسجد الأقصى، وكان لافتاً أيضاً مرور هذه الفعالية دون أن تحظى بالاهتمام أو التغطية الإخبارية من جانب الصحافة ووسائل الإعلام العربية، المنهمكة في متابعة الحروب العربية المتنقلة، ناهيك عن الخلافات الداخلية.
ولعل هذه المظاهرة النادرة هي ما حفزني على إثارة هذه المسألة، وحملني على طرحها، مندهشاً، إمام كل هذا الصمت والتجاهل من جانب المعنيين بالأمر، ممن ألقوا بعبء التصدي لهذا النهج الموغل في تحديه للمشاعر والمصالح الوطنية، على كاهل أبناء طائفة بعينها، راحت ترفع صوتها، وتستجمع قواها، وتبادر إلى حث المسؤولين على القيام بكل ما من شأنه وقف عمليات بيع واسعة لأملاك تخصّ عموم الأردنيين والفلسطينيين، بمن في ذلك أبناء الطائفة الارثوذكسية.
ومن غير الدخول عميقاً في تفاصيل عمليات البيع المستمرة هذه، أو التعرض للمقامات الدينية المسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه العمليات المشبوهة، وفي مقدمتهم “بطريرك المدينة المقدسة وسائر أعمال الأردن وفلسطين” فإننا أمام ظاهرة مؤكدة، وليس أمام تقارير غير موثقة، تتحدث عن صفقات بيع كبيرة، يقوم بها البطريرك ثيوفيولس لممتلكات كنسية تقع في أكثر المواقع حساسية، وأرفعها قيمة مادية ووطنية، تشمل القدس والعديد من المدن من أراضي الـ 48.
نعلم ان هناك مجلساً تكوّن حديثاً، تحت مسمى “المجلس المركزي الأرثوذكسي في الأردن وفلسطين” على خلفية اشتداد ظاهرة بيع الأملاك الوقفية الكنسية في القدس أساساً (لم يجتمع ولو لمرة واحدة)، إذ لم نشهد نشاطاً مميزاً لهذا المجلس المنوط به رفع سوية الدفاع عن عروبة القدس، وحث الحكومتين؛ الأردنية والفلسطينية على التدخل بكل صورة ممكنة، لإيقاف البطريرك عند حده، بعد أن تبين أنه أداة طيّعة بيد الاحتلال الاسرائيلي، وسمسار لبيع وتأجير ونقل هذه الممتلكات للمحتلين.
لقد سمعنا عن مطالبات من جانب هذا المجلس وغيره من الشخصيات الاعتبارية الأرثوذكسية، تدعو إلى تعديل قانون البطريركية الحالي، النافذ منذ العام 1958، على نحو يحدّ من الهيمنة المطلقة لبطاركة الكنيسة اليونانيين، مقابل توسيع مشاركة العرب في إدارة الشؤون الكنسية، وعلى رأسها وقف بيع نحو ثلث أراضي البلدة القديمة المملوكة للكنيسة الأرثوذكسية وحدها، ناهيك عن مساحات أخرى شاسعة في أغلب المدن الفلسطينية المحتلة، إلا أن هذه المطالبات المحقة ذهبت أدراج الرياح.
ومعلوم أن تعيين البطريرك الأرثوذكسي يتطلب مصادقة كل من الحكومتين؛ الأردنية والفلسطينية، إلى جانب الحكومة الاسرائيلية، على هذا التعيين، الأمر الذي يطرح سؤالاً مشفوعاً بالدهشة والاستغراب، إزاء الامتناع عن استخدام هذا الحق المشروع، للضغط على البطريرك، بل والتهديد بعزله إذا كان ذلك ممكناً، بعد أن تورط هذا اليوناني المهيمن على مقدرات أم كنائس المشرق، ببيع أوقاف لا يجوز نقلها تحت أي ذريعة، وهو ما يدعونا إلى ضم الصوت للداعين إلى أخذ زمام المبادرة لعزل من فقد ثقة رعيته.