برحيل رفعت السعيد، أحد أبرز وجوه اليسار المصريّ التقليديّ، يُسلّط بعض الضوء على منظومة تفكير وسلوك لازمت تطوّر منطقتنا منذ الخمسينات. هوامش تلك المنظومة تغيّرت، لكنّ متنها لم يتغيّر من أيّام «الحركة الديموقراطيّة للتحرّر الوطنيّ» (حدتو) التي كان رفعت مناضلاً شابّاً فيها إلى أيّام «حزب التجمّع الوطنيّ التقدّميّ الوحدويّ» حين صار من قياديّيه ثمّ رئيساً له.
وليس صدفة أنّ هذا اللون الفكريّ والسياسيّ الذي مثّله رفعت السعيد صار يتجسّد بشخصيّات ووجوه، بعضها سياسيّ وبعضها ثقافيّ، لكنّه لم يعد يجد أحزاباً وقوى عريضة تعبّر عنه، وهو ما يصحّ، مع تفاوت النسب، في سائر تشكيلاته في المنطقة العربيّة.
اللون هذا يمكن وصفه بالأصوليّة العلمانيّة: نفس القطع والحسم والاستبعاد للآخر ممّا هو معروف في الأصوليّة الدينيّة. ولمّا كان الأصوليّ الدينيّ والأصوليّ العلمانيّ يتبادلان سلعة الاستبعاد نفسها، بدا الصراع بينهما قَبَليّاً لا سياسيّاً، يفتح على العنف الذي يحبّه الطرفان ولا يفتح على السياسة التي يكرهانها.
قد يقال، بكثير من الصحّة، إنّ من المنطقيّ والطبيعيّ أن يسود العداء المطلق بين حركتين إطلاقيّتين. لكنّ صحّة هذا التقدير لا تُعفي من مراجعة ظروفه وشروطه الخاصّة.
ففي ما خصّ اليسار الذي عبّر عنه رفعت وبعض مجايليه، وبعض تلامذتهم، بدا في الأمر تثبّتٌ عند حقبة معيّنة وعند فهم ما للتقدّم. ذاك أنّ «الفجر الجديد» بدا قاب قوسين، لا يعيق وصولَه إلّا حفنة من «المتخلّفين». صحيح أنّ الإسلاميّين أخافوا أولئك اليساريّين كما أخافوا الليبراليّين، إلّا أنّ الأخيرين تلكّأوا عن مهمّتين: فمن جهة، لم يستطيعوا تبيئة مصادرهم الغربيّة، ولا استطاعوا مواكبة التغيّر الذي أصاب تلك المصادر نفسها، دافعاً بها إلى الانفتاح على التعدّديّة والآخر. لقد مكث «الغرب» لديهم في لحظته العلمويّة التي لم «تتطوّر» لاحقاً إلّا في وجهة سوفياتيّة.
ومن جهة أخرى، لم يتعاطفوا مع ضحايا القهر والاضطهاد، وكان الإسلاميّون أوّل وأكثر هؤلاء الضحايا، على أيدي أنظمة عسكريّة وأمنيّة وصفها الشيوعيّون بـ «الوطنيّة» و «التقدّميّة». والسلوك هذا الذي انتهى بأصحابه إلى الوقوف في صفّ الأنظمة العسكريّة والأمنيّة، عزّزته علاقات وخرافات: ذاك أنّ العداء للاستبداد لم يكن مرّة جزءاً من «البرنامج» اليساريّ. وبسبب العلاقة التبعيّة للاتّحاد السوفياتيّ، غدت الأنظمة الصديقة لموسكو شقيقة كبرى للشيوعيّين المحليّين، فحلّ عمليّاً تمكين الاستبداد في رأس هذا «البرنامج». وحين كان يطرأ صدام مع واحد من هذه الأنظمة، على ما كانت الحال مع الناصريّة بين 1958 و1964، كان السبب علاقة موسكو بذاك النظام، لا تكوين هذا النظام نفسه.
وسلوك كهذا أسّس للنقص الديموقراطيّ ولتضييق رقعة السياسة في المجتمعات المعنيّة. فهذا الطرف لم يرفع مرّةً دعوةً إلى تسوية بين ضحايا الاستبداد، وفي عدادهم الإسلاميّون طبعاً، دعوةً قد تُغري الأخيرين بالمقايضة: الحضور في السياسة والحقل العامّ مقابل تكيّف مع مواقف أكثر تقدّماً في خصوص المرأة والأقليّات والدستور. ما حصل هو العكس، فأدّى الالتحاق بتلك الأنظمة إلى تمكينها في مواجهة خصومها المحرومين من حقوقهم وحرّيّاتهم.
لقد كان الاستثناء الأبرز العلاقة بـ «حزب الله» الذي تربطه بالأنظمة العسكريّة والأمنيّة، وبأيديولوجيّاتها في المقاومة، علاقة ودّ وتحالف. وهذا ناهيك بكومة من الخردة النظريّة التي تتيح إدراج حزب «الوليّ الفقيه» في ما هو «متحوّل»، لا «ثابت»، أو في ما هو «يسار الإسلام» لا «يمينه».
واليوم، لا تتجلّى خلاصة هذا المنحى كما تتجلّى في «الحرب على الإرهاب» التي كفّ أنصارها من «مناهضي الإمبرياليّة» عن الاكتراث بأسباب هذا الإرهاب، علماً أنّهم لطالما كانوا ملوك هذا السؤال ومحتكريه.
لقد دمج رفعت السعيد نشاطه السياسيّ بنشاط فكريّ وتأريخيّ عبّرت عنه كتبه ومقالاته، وكان رجلاً صادقاً في ما آمن به وهو شابّ. لكنّ مرور الزمن أبقاه على ذاك الإيمان الأوّل، لا يتزحزح عنه، فيما كلّ شيء كان يؤكّد الحاجة إلى تغيير القناعات الأولى. وذلك لو حصل، لأعفى راحلنا الكبير من الاضطرار إلى حماية رجال الأمن… الأمن إيّاه!