كلما ذهبت إلى طرابلس في شمال لبنان أعود منها شيوعياً، والأخيرة هفوة كنت أعتقد أنني شفيت منها. ولشيوعيتي المستعادة في طرابلس وجه واحد يتمثل في يقيني أن للفقر في المدينة وظيفة رئيسية تتمثل في حماية نظام أغنيائها. الفقر هناك لا ينفصل عن مهمته تلك، فلولا الفقراء لما تمكن الأغنياء من الحفاظ على تصدرهم. هذه المعادلة مبتذلة وشديدة «الشيوعية»، لكن للأخيرة لحظات حق من بينها اللحظة الطرابلسية.
ليس مصادفة أن طرابلس من أكثر المدن اللبنانية إنجاباً لسياسيين أغنياء. النفوذ الأكبر فيها لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، وهو رجل مال وأعمال قبل أن يكون سياسياً. يليه في النفوذ الوزير محمد الصفدي وهو من قاده ماله وأعماله إلى السياسة. وإذا أضفنا إليهما، من خارج طرابلس، رئيس الحكومة سعد الحريري، وهو أيضاً وارث زعامة (طرابلسية أيضاً) مصدرها ثروة أبيه، وأضفنا أصحاب نفوذ طرابلسيين آخرين تقل ثرواتهم عن هؤلاء لكنها تطمح إلى منافستها وبلوغها، فسنحصل على مشهد سياسي طارد أي زعامة تطمح إلى تصدر المدينة من دون أن يسبقها تصدر مالي.
وطرابلس وضواحيها وأريافها التي هذه حال طبقتها السياسية، يسودها فقر وحرمان أشد قسوة ووضوحاً من أي منطقة لبنانية. في طرابلس أُمية مسكوت عنها، ولا تقتصر على نخب فقيرة، إنما هي حال أجيال جديدة يقيم أفرادها في الأحياء الشرقية والشمالية من المدينة. أجيال لا تجيد القراءة، ومنازل من هذه حالهم لا تبعد سوى مئات الأمتار من منازل النخب السياسية والاجتماعية والمالية. والقول أن هذا الحرمان الجوهري والوظيفي ناجم عن غير معادلة الأغنياء والفقراء، هو قول غير صحيح. ففي لبنان توزع الغنائم على أصحابها وفق توزعهم الطائفي، فينال زعيم الطائفة حصته، يوزع بعضها ويسرق بعضها، ويتولى نظام الفساد هذا رشوة الجماعات في الوظائف العامة والنفوذ المحلي وبعض مصادر الترزق الأخرى. وهذه ليست حال فقراء طرابلس.
والغريب أن زائر جنوب لبنان مثلاً يمكنه أن يرصد حصة الشيعة من غنائم الدولة في كثير من أوجه الحياة. في الطرق المستحدثة وفي المدارس والمؤسسات العامة والوظائف. أما زائر الشمال فلن يجد أثراً لحصة السنّة من هذه الغنائم. وطبقة المستفيدين الشيعة والمسيحيين من نظام المحاصصة والفساد أوسع بكثير من شقيقتها السنّية، ومن المرجح أن لا يكون هذا الخلل ناجماً عن سوء توزيع للفساد، إنما عن تركز الحصة السنّية من الفساد بيد نخبة صغيرة.
عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف من أهل المدينة ومن أبناء أريافها القريبة والبعيدة متروكون لـ «داعش» لكي يستثمر في فقرهم وفي أميتهم وفي أوضاعهم الصحية ورثاثة سكنهم وعيشهم الذي لا يبعد من الموت سوى خطوات قليلة. وثمة عنصر جديد أضيف إلى هذا المشهد: فقد سلم زعماء المدينة فقراءها إلى الأجهزة الأمنية، وهذه الأخيرة في الترسيمة الطائفية والانقسامية اللبنانية تتعامل مع بيئة فقراء المدينة بصفتها بيئة عدوة وولادة للإرهاب. التوقيفات تجرى من دون أي رقابة، ويُقدم الزعماء تسهيلات للضباط من دون أي شعور بالمسؤولية عن أي ظلم قد يلحق بالموقوفين. والأخيرون يعودون من السجن ملتحين، وعشرات منهم خرج من السجن وتوجه مباشرة إلى «الجهاد» في سورية أو العراق. كثيرون ماتوا هناك، وتركوا أطفالاً من زيجات حصلت في معسكراتهم، يلهث أجدادهم لاستعادتهم من دون أن يجدوا من يستمع إليهم.
قصص فقراء المدينة لا تنتهي، وطرابلس الهاربة من فقرائها نحو المصايف البحرية والجبلية في جنوب المدينة وفي شرقها، منفصلة عن نفسها ولا تشعر بأنها مهددة بهذا الانهيار. وكلما اقترب البؤس من أحد الأحياء، دفع أهله غير الفقراء خطوة إلى المناطق الجديدة التي راحت طرابلس تهرب من نفسها إليها. وهذا التدافع بين الفقراء وغير الفقراء من أهل المدينة غريب بعض الشيء، ذاك أنه يكشف قوة الفقر ومقدرته على دفع من هم خارجه إلى مناطق أبعد، بحيث يبدو أن زحف الفقراء نحو مناطق الأغنياء هو انتصار وتصدر، فيما العكس هو الصحيح، فالأغنياء يهربون حاملين غنائم حرب خسروها، وهربهم إرادي وغير انهزامي.
وفي محيط الفقر الطرابلسي تتعاظم ظواهر لا تقتصر على الالتحاق بـ «داعش» وبغيره من ظواهر الانهيار. في العائلة الواحدة قتيل في العراق وسجين في رومية بتهمة تعاطي المخدرات، وهذا التوازن في الخيارات الراديكالية يرعاه نظام المدينة الذي يحرص الأغنياء على بقائه حفظاً لتصدرهم. صور الزعماء الأغنياء الهائلة ترتفع بين خرائب أحياء الفقراء. في حي البقار تصفع صورة الرئيس نجيب ميقاتي وجهك لشدة صفاقتها، فالرجل فيها أنيق وحليق ومبتسم، بينما صاحب المنزل الذي يستضيف الصورة على شرفته لا يعمل وجدران منزله على وشك الانهيار، ولا مدارس تؤوي أولاده.
ثمة هزيمة لحقت بالمدينة. في أحياء الفقراء يمكن رصدها، فيما التحق وجهاؤها في ركب المنتصرين. فبعدما كان الوجهاء يمولون المجموعات المسلحة التي كانت تقاتل على محور التبانة- بعل محسن، قرروا أن الحرب يجب أن تنتهي وأن المقاتلين يجب أن يذهبوا إلى السجن.
في طرابلس الفقيرة هزيمة مرتسمة على وجوه الجميع. الرجل الذي يبحث عن زوجة ابنه الذي قتل في الرقة لم يجد من يساعده من وجهاء المدينة. قالوا له أنهم لا يتدخلون في أي مسألة تخص «داعش». مسؤول في «حزب الله» وعده بأن يتصل بـ «قوات سورية الديموقراطية» لكي تسهل عبورها من كوباني إلى حلب، وسيتولى الحزب نقلها إلى طرابلس مع أطفالها الثلاثة. إنها زوجة أحد المقاتلين الذين كانوا على خط الاشتباك في منطقة التبانة قبل أن يغادر إلى الرقة ليقاتل «حزب الله» هناك.
إنها الهزيمة وقد أصابت الفقراء واستثنت الأغنياء، فالأخيرون ابتعدوا خطوة من مسرحها وتوسعوا في مد منتجعاتهم على الشاطئ الجنوبي للمدينة، وراحوا يستقبلون فيها ضيوفاً من المنتصرين. وهم يطمحون إلى أن يبقى الفقراء حراساً للقيم التي توارثوها، والتي يشعرون بأنها هيكلهم الذي يزورونه في شهر رمضان. الهيكل يجب أن يبقى، وحراسه يجب أن يكونوا جائعين، وإلا ساورهم طموح في أن يعلموا أولادهم.
أليست هذه لحظة «شيوعية»؟