يردد وزراء ونواب من تيار «المستقبل» اللبناني هذه الأيام مقولة مفادها بأن هناك قراراً دولياً وإقليمياً بتسليم لبنان لحزب الله، وهم يعتقدون أنهم بهذا يردون عن أنفسهم سهام هزيمة لحقت بهم جراء تصدر حزب الله حكومتهم وبلدهم ومستقبلهم، وهذه أيضاً، للأسف، حكومتنا وبلدنا ومستقبلنا.
هذه المقولة هي جوابهم عن كل شيء. عندما تسألهم عن النفط يجيبونك بها، وعن الفساد أيضاً، ناهيك بأن جوابهم عن أسباب خذلانهم اللاجئين السوريين وعن «ملحمة» الجرود وتراجيديا عرسال.
والحال أن مراجعة سريعة وغير مرهقة لحقيقة ما يرددون تصيبك بالحيرة، ذاك أن اعتقاد هؤلاء لا حقائق صلبة تدعمه. البعد الدولي للقرار المزعوم لا ينسجم مع الجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية لتنفيذ برنامج عقوبات واسع على حزب الله، وهي عقوبات لن ينجو منها لبنانيون كثر على ما يبدو! أما لجهة البعد الإقليمي، فتلوح أمام المرء عقبات كثيرة تعيق اقتناعه بما يقوله قادة تيار «المستقبل». لا أحد باستثناء إيران والنظام في سورية، من مصلحته أن يُسلم لبنان لحزب الله. وعندما تحضر كلمة «إقليمي» تحضر أيضا إسرائيل بصفتها علامة رئيسة لهذه العبارة. فهل يصح أن ثمة قراراً إسرائيلياً بتسليم لبنان لحزب الله.
وظيفة هذه المقولة هي رد الهزيمة عن النفس وإلحاقها بالعالم. فحزب الله انتصر على «المستقبل» وعلى غيره من القوى الطائفية والسياسية التي كانت تناصبه الخصومة. وهو انتصر لأسباب لها علاقة أيضاً بطبيعة تلك القوى، وبالمضامين الأخلاقية لممارساتها. فهي تصرفت بالتفويض الانتخابي الذي أعطي لها في 2009، على نحو أسوأ مما يمكن أن يأتي به ضعيفو خيال وحيلة وأخلاق. الحزب انتصر على خصوم فاشلين، وبموازاة انتصاره عليهم، لم يتمكن من فرض نصره على غيرهم. انتصر على مشهد سياسي في لبنان، إلا أنه لم ينتصر على القواعد الاجتماعية لفيديرالية سلوكات الجماعات اللبنانية. انتصر على سعد الحريري ولم ينتصر على مشهد كورنيش المنارة، وانتصر على سمير جعجع ولم ينتصر على أنماط عيش أهل الأشرفية.
لا قرار دولياً وإقليمياً صدر بتسليم لبنان لحزب الله. ثمة قرار داخلي اتخذه خصوم مزعومون لحزب الله بالترويج لهذه المقولة، يغطون به استعاضتهم عن الاعتراف بالهزيمة وبالفساد والغنائم، ويستبقون فيه انكشاف فشلهم أمام من فوضهم تمثيله.
حزب الله نفسه سيضيق بهذه المقولة، ذاك أنها ترتب عليه ما لا يرغب الآن في أن يوكل إليه. والحزب إذ يعرف أن خصومه يترنحون، سيشعر لاحقاً أن أعباءهم أكبر من عوائدهم. ناهيك عن أن المهمة في سورية تقتضي خصوماً في لبنان، وارتخاء الداخل سيُطفئ عصب التجنيد، وسيجعل من الحرب خارج الحدود مهمة روتينية، وهذا لا يُساعد على الإنجاز. أما الغنائم في الداخل، فهو مجبر على توزيعها وفق حسبة الطوائف وأحجامها. فهو قد ينتصر على السنة اللبنانيين في عرسال إلا أنه لا يستطيع تجاهل حصصهم في الوزارات، وهو قد يأتي برئيس للجمهورية من خارج قناعة المسيحيين، إلا أنه أيضاً سيجد نفسه أمام رئيس مسيحي في النهاية. سيضجر الحزب من هذا النصر وسيكتشف صعوبة اكتماله، وسيجد نفسه أمام استحالات غير مسبوقة، فكيف يمكن لمنتصر أن لا يكون حاكماً مطلقاً، وأن لا يفرض قيمه؟. النصر خارج الحدود لا قيمة له داخلها، إلا إذا توافر للمنتصر خصم داخلي يرغب في الاستعاضة عن هزيمته بشراكة صغيرة في المستقبل وواسعة في الغنائم.
سينوء حزب الله بأثقال انتصاره الداخلي إذا ما سلم بمقولة «المستقبل» عن مزاج دولي بإهدائه لبنان. فبالنسبة للحزب هذه هدية مسمومة، وهو اليوم إذ ينعم بنجاحه في توظيف لبنان في برنامجه الإقليمي، يعرف تماماً أن نجاحه هذا شرطه أن تكون للبنان صورة أخرى غير تلك التي يمكن أن تلوح للمرء بصفتها صورة لدولة حزب الله. والحزب غير المنتصر في الداخل وغير المُعمم على حياة اللبنانيين سيكون أقوى وأكثر فعالية من ذلك الذي أنجز السيطرة الكاملة على أنماط عيش هؤلاء. الحزب يدبر حاجاته عبر إدارة للصيغة من خارجها. حين يصبح صلبها ومضمونها سيصطدم بحقيقة أن طوائف كبرى شريكة له فيها. حين سيذهب إلى الحرب سيحملها معه. أما اليوم، ووفق معادلة السلطة من خارج السلطة، فهو انتزع تفويضاً بالحرب من دون أكلاف الشراكة فيها.
لن تصح مقولة «المستقبل». حزب الله نفسه سيقاومها. لبنان ليس أكثر من مساحة في ملعب أوسع، وجل طموحات الحزب أن تبقى البيئة الشيعية فيه معبأة بانتظار مزيد من المهمات خارج الحدود، وهذا ما يؤمنه احتقان مذهبي وخصوم يكابرون على الهزيمة ولا يعلنون الاستسلام النهائي.
ماذا يعني أن تنتصر قوة لبنانية في سورية؟ الأرجح أن ذلك لا يعني شيئاً إذا ما احتسب لبنانياً. النصر في سورية يبقى هناك، و «المستقبل» إذ يرغب في سحب نصر الحزب إلى لبنان، سيواجه بمقاومة الحزب هذه المساعي.
الحزب يعرف أن لبنان لا يستقيم تحت سلطته المطلقة. الأصوات التهديدية التي تصدر عن إعلامه تؤشر إلى شعوره بأن الأمر لم يستتب له. ويعرف الحزب أيضاً أن «المستقبل» لا يملك تفويضاً لإعلان هزيمة السنة في لبنان، والأرجح أن يبدأ بالبحث عن خصوم سنة تــــتوافر فيهم بعض الرغبة في المواجهة. ويبدو أن كثراً يستعدون، وأشرف ريفي لن يكون الوريث الوحيد.