ينقلنا الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في روايته “مملكة الفراشة” إلى آفاق وأبعاد متنوعة ومختلفة، من رؤية الحالة العربية اليوم، وإن كان المدخل الذي اتخذه هو الحالة الجزائرية، إلاّ أنّها تحمل مؤشرات وسمات مشاكلة تماماً لما يحدث في العالم العربي اليوم، وتحديداً في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
يجترح الأعرج في روايته مصطلح “الحرب الصامتة”، وهي التي تلت عشرية الحرب الأهلية في الجزائر، وتتبدى – الحرب الصامتة- في مظاهر متعددة، اغلبها مرتبط باستثمار السلطة لحالة الخوف والفوضى من أجل مصالح شخصية واقتصادية معينة.
بطلة الرواية هي فتاة صيدلانية مثقفة إلى درجة كبيرة، مدمنة على قراءة الروايات، لكنها أصيبت بالإدمان لاحقاً على العالم الافتراضي، ومن هنا جاء عنوان الرواية – مملكة الفراشة، وتحديداً الفيس بوك، وقد تحول هذا العالم الافتراضي إلى أشبه بالمخرج أو المخبأ لدى جيل وشريحة اجتماعية واسعة من الشباب، المحاصر بالظروف السياسية والاقتصادية السيئة.
لكن الرواية تنتقل من فضاءات فردية مرتبطة ببطلة القصة إلى فضاء الأسرة، وما حدث لوالدها ووالدتها وشقيقها وشقيقتها، بسبب الحربين؛ الأهلية والصامتة، من تدمير أخلاقي أو نفسي ممنهج، وكذلك تتطرق الرواية إلى الفضاءات السياسية والاجتماعية، والعديد من الظواهر الخطيرة التي انتشرت في الجزائر، ولها مشاكلاتها في دول ومجتمعات عربية أخرى!
ربما قيمة هذه الرواية في المستويات السسيولوجية والسيكولوجية، بخاصة عندما نتطرق إلى جيل الشباب العربي اليوم والضغوط التي يتعرض لها، وتدفعه إلى الهروب، بالهجرة أو العالم الافتراضي، وتدفع بجزء منهم إلى التطرف والإرهاب، وآخرين إلى المخدرات.
بالرغم من تناول الأبعاد والمستويات السابقة المختلفة والمتعددة، إلاّ أن جمالية الرواية وفنيتها المتقنة تتمثّل في أنّها تستبطن هذه التحولات، من دون الانزلاق إلى اللغة الخطابية الممجوجة أو المكشوفة، فالقارئ هو من يستنتج من خلال سرديات الأحداث والتطورات تلك التحولات، عبر الاشخاص المختلفين، عبر لغة محترفة يتقنها الأعرج في مختلف رواياته عموماً.
القيمة الأخرى للرواية أنّها تدخل إلى عمق التحولات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات التي تشهد حروباً داخلية أو فوضى أو حروباً أهلية، وأزمات سياسية عاصفة، ما ينطبق اليوم على أغلب المجتمعات العربية، من دون أن نجد اهتماماً وتفكيراً معمقاً من قبل السياسيين والعلماء، بما تحدثه تلك الحروب من آثار ثقافية واجتماعية ونفسية.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء في الرواية العربية، فسنجد أن الرواية اللبنانية، أو العربية عن لبنان، هي التي أدخلت مفهوم الحرب الأهلية في الرواية، خلال مرحلة الحرب الأهلية، ثم نجد شيئا قريبا من ذلك في الحالة السورية مع أحداث حماة ونتائجها والتعامل مع النظام البوليسي، كرواية خالد خليفة “مديح الكراهية”، أو رواية القوقعة، عما يمكن تسميته أدب السجون.
بينما وفي الاعوام الأخيرة، ظهرت روايات عديدة جديدة، ونخبة من الروائيين العراقيين والسوريين من كتبوا عن الحرب الأهلية والداخلية والإرهاب والتطرف، مثل علي بدر وأحمد السعداوي عراقياً، وخالد خليفة في روايته الموت عمل شاق، وهنالك رواية “حكاية العربي الأخير” لواسيني الأعرج نفسه التي تنطلق من الحالة العربية البائسة الراهنة إلى التنبؤ بصورة غير مباشرة بالمستقبل، على غرار راوية جورج أورويل 1984.
التحولات الاجتماعية والظروف التاريخية القاسية الراهنة، وبروز ظاهرة اللاجئين والمهجرين والنازحين بالملايين، والداعشية والتطرف، والحروب الأهلية والداخلية، بمثابة مدخل جديد لصعود أدب الحروب الأهلية العربية في المرحلة القادمة.