قلما تفعلها” الغد” في سياق تغطيتها للأحداث المحلية، وأن تعطي مسألة اجتماعية ما كل هذه الاهمية، بأن تضع في صدر صفحتها الاولى، وعلى عرض ثمانية اعمدة، خبراً متعلقاً بإلغاء مادة من قانون العقوبات، كان تصويت مجلس النواب عليها محل أخذ ورد حتى اللحظة الاخيرة، الامر الذي يشير الى مدى خصوصية ما جرى تحت القبة، ويؤكد على استثنائية هذا التطور الايجابي في الحياة المدنية لمجتمع برهن خلال هذه المناسبة انه يفيض بالحيوية، وهو ما التقطته ببراعة الصحيفة التي تؤمن بالتنوير وحق المعرفة.
وقد لا تضيف هذه المطالعة الشيء الكثير الى ما أهرق من حبر، وما فاض من مواقف، وما جرى من حراك مدني، ليس كله من فعل النساء فقط، لإلغاء المادة 308 سيئة السمعة، الا ان هذه الواقعة تستحق في حد ذاتها إبداء الحفاوة، والتعبير عن الابتهاج بشطبها من قانون العقوبات الجزائي، كونها كانت تشكل علامة فارقة على التميز الذكوري والتحيز الجنسوي في آن، الأمر الذي يدعو كل من اسهم بقسط، مهما كان متواضعاً، في اظهار الغبطة العامة بشطب المادة التي حث على تعديلها جمع من النساء والرجال المتنورين.
والحق انه لم يتم إلغاء هذه المادة هكذا بين يوم وليلة، ولم يجر إسقاطها في نهاية المطاف الا بعد بذل جهود مضنية استمرت لسنوات طوال، وقفت خلفها قيادات نسائية بارزة، ومثقفون وبرلمانيون وساسة وطنيون ديمقراطيون من كلا الجنسين، سواء بالوقفات المطلبية المتعاقبة، أو بالمواقف والتصريحات القوية، أو حتى بالكتابة في المنابر الصحافية المختلفة، بما في ذلك منصات التواصل الاجتماعي، الامر الذي كوّن رأياً عاماً ضاغطاً على القوى المحافظة، وخلق أفضل المناخات المواتية أمام المشرعين لطي هذه الصفحة الى غير رجعة.
لا يتسع المقام هنا لتقديم التحية وواجب الاحترام لرهط من النشيطات والنشطاء الشجعان، كل باسمه او بلقبه، ممن خاضوا غمار تعديل المادة المذكورة دون كلل او ملل، او شطبها من جانب مجلس الامة، حيث ظهر هؤلاء المنفتحون على العصر في بداية الامر، وكأنهم يسبحون ضد مجرى نهر جارف، يقاتلون بأظافرهم الناعمة، وبوجهات نظرهم القائمة على تحقيق العدالة والمواطنة المتساوية، كتلة اجتماعية طويلة عريضة صماء، كانت ترجمهم بالاتهامات من كل لون، وتعرّض بسمعتهم الشخصية، وتدفعهم احياناً الى موقف الدفاع عن النفس.
ازاء ذلك كله، يحق لمن أثروا النقاش المجتمعي بجدارة، وخلقوا قضية رأي عام بدت رابحة منذ البداية، ثم شكلوا قوة ضغط وازنة على البرلمان، ان يشعروا اليوم بطعم الانجاز الذي تم بشق الأنفس، وان يتلمسوا في أعطافهم القدرة الكامنة على الفعل الايجابي مهما طال المطال، وتحقيق مزيد من المكتسبات المدنية، وغير ذلك من المسائل المطلبية الحقوقية العادلة، لا سيما أن هذه الخطوة المهمة قد تفتح الباب امام كثير من الخطوات الاخرى المماثلة على صعيد التشريعات، التي تعتبر الاداة التطويرية الوحيدة لعصرنة البنية القانونية اللازمة في أي حال.
وليس من شك في ان الطريق ما يزال طويلاً امام إنصاف المرأة، بإنهاء التمييز ضدها على كل صعيد، بما في ذلك مساواتها بالرجل امام القانون، وان المهمة شاقة بعد، دونها مصاعب وتحديات جسام، غير ان هذا الانجاز الذي تطلّب تضافر جهود حثيثة مضنية، واستهلك أوقاتاً مديدة، وتحقق في رابعة النهار، يؤكد ان الامر قابل للتحقق ولو بعد حين، وان هذه الغاية ممكنة في اجل ما، خصوصاً اذا تم البناء على هذه الخطوة الجبارة، بمعايير الثقافة الاجتماعية السائدة، وجرى ضخ مزيد من قوى الحراك المدني المطلبي المشروع وراء مثل هذا الهدف الواقعي.
في ختام هذه الحفاوة المستحقة بإلغاء المادة 308، وإنهاء الجور والغبن والإذلال، الذي ظل يلحق بالفتيات المغتصبات، ووضع حد نهائي لمسألة الإفلات من العقاب، نقول؛ كانت مؤازرات النساء للاتجاه الغالب في البرلمان، ومن تحت القبة، مثيرة للإعجاب وباعثة على الثقة بقدرة المرأة في بلادنا على الإنجاز، وتحقيق ما تتطلع اليه من حقوق تماثل ما سعت له النساء الرائدات في المجتمعات المتقدمة، وهي مكاسب تطلبت العناد والإصرار، واستغرق الحصول عليها وقتاً طويلاً، أحسب أنه بات أقصر الآن.