تأخذنا عديد تعديلات أُقرّت على قانون العقوبات إلى مرحلة جديدة في كثير من المفاصل؛ أهمها، بالصورة العامة، استعادة جزء من هيبة الدولة والمؤسسات المتمثلة بالموظف العام، إذ تم تغليظ العقوبة المفروضة على المقاومين للموظف العام.
كما تنتقل بنا التعديلات إلى حالة حضارية جديدة فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد النساء، تحديدا ما يتعلق بقضايا الشرف وتزويج المغتصبة.
التعديل التاريخي الأهم يتمثل بإلغاء المادة 308، وتعديل المادة 98، لأن الأولى تمنع تزويج المغتصبة لمغتصبها، فيما تنحاز الثانية لقاتل المرأة بمنحه ما اصطلح على تسميته “العذر المخفف”، وتم حصر هذا العذر في جرائم الشرف بـ”حالة التلبس” فقط.
أما المادة 308، وعلى إيجابياتها التي يتغنى البعض بها من باب أنها تحمي النساء من القتل وتقلل أعداد مجهولي النسب، إلا أنهم يغضون الطرف عن الظلم الواقع على المغتصبة من أجل قيم مجتمعية تؤمن أنها مذنبة لا ضحية، ولذلك تلجأ إلى معاقبها مرة أخرى بتزويجها من مجرم بلا ضمير ولا أخلاق، ومن المعروف أنه لن يصونها أو يقدرها.
صحيح أن ثمة كلفا ستدفعها الفتيات والنساء ضحايا الاغتصاب، لكنْ معلوم أيضا أن تغيير المجتمعات وإحداث الفرق المطلوب لا يتم إلا بالتشريعات والقوانين، فالدول لم تتطور أو تتحضر إلا من خلال القوانين العادلة التي تنظر بعدالة إلى جميع أطراف الاشتباك.
ورغم أن المادة 308 تُوّجت عنوانا للتغيير، إلا أن هناك تعديلات لا تقل أهمية تسهم بفاعلية في رفع أشكال أخرى من الظلم الواقع على الفتيات، وتؤسس لأرضية يتم التعامل فيها مع المرأة بعدالة ومن منطلقات إنسانية بعيدا عن بعض الأعراف والتقاليد التي جيّرت حياتها وكينونتها لمصلحة الرجل.
في هذا السياق؛ جاء التعديل القانوني ليحرم الجاني من الولاية على المجني عليها في حالة السفاح. وأيضا، تعد المادة المتعلقة بالتحرش الجنسي نقلة مهمة تعكس النظرة المنصفة للمرأة، إذ جاء وضع بند خاص يدين التحرش، ما يسهم في تغيير النظرة المجتمعية التي تدين المرأة التي تتعرض للتحرش، وهي بذلك تقلب الصورة النمطية حيال المرأة بتبرئتها وإدانتها للمتحرش.
أما الجزئية الأخرى التي تؤكد أننا بصدد امتلاك قانون عصري يراعي حق الناس بالتعبير، فجسّده رفض السلطة التشريعية للمادة التي تجرّم الاعتصامات العمالية أو المهنية، لما لها من انعكاسات خطرة على الحريات العامة.
فيما يشكل تغليظ العقوبة على إثارة النعرات الطائفية والمذهبية حلا لمرض جديد بدأت تتجلى أعراضه في الفترة الماضية، وبات يحتاج إلى تعامل قانوني صارم من خلال مادة قانونية واضحة ومباشرة تدين هذا الفعل القبيح.
كما أن تغليظ العقوبات على بعض المشاكل التي اتسع مداها بسبب تواضع العقوبة سيعمل على محاصرتها والحد من تزايدها.
بصراحة؛ إقرار تعديلات قانون العقوبات يمنح الأمل بالانتقال إلى مرحلة جديدة وحالة حضارية تمثل خطوة إلى الأمام باتجاه دولة القانون وسيادته، ويرسخ مبادئ العدالة والمساواة. ورغم أن إلغاء المادة 308 توّج على رأس التعديلات منجزا تاريخيا، وهو كذلك، إلا أن باقي التعديلات لا تقل أهمية عنه، كونها عالجت كثيرا من الاختلالات التشريعية، وملأت الفراغ والقصور الذي كان يشوب بعض القوانين.
بعد كل هذا، تبقى العبرة في التنفيذ، وفي العمل من خلال قنوات أخرى تعمل على تغيير القيم والثقافة المجتمعية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم من انحدار وتخلف، فالمعلوم أن القوانين، وعلى أهميتها، لا يمكن لها وحدها أن ترتقي بالمجتمعات، بل يتوجب أن تواكبها استراتيجيات واضحة لتغيير المفاهيم والقيم والثقافات المجتمعية التي أباحت عقودا من الظلم واللاعدالة ومصادرة حقوق فئات مستضعفة، وهو أمر ليس بالهيّن، بل يحتاج إلى جهود كبيرة تتشارك فيها المؤسسات الرسمية والخاصة ومنظمات المجتمع المدني.